إشراقات من سورة الأنعام 10

إشراقات من سورة الأنعام

( بين الأولوهيّة والحاكميّة )

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد كانت المشكلة الأزلية في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق , بصفاته الحقة ; ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله !

ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة ;

بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه , وبأنه الخالق ، الرازق ، المالك ، المحيي ، المميت . . إلى كثير من الصفات - كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم , وفي حكاية أقوالهم - ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم :

1. ما كانوا يعترفون له ( بالحاكميّة ) .

2. ونفي الشركاء له في تدبير شؤون حياتهم ;

3. واتخاذ شريعته وحدها قانونا , ورفض مبدأ تحكيم غير الله في أي شأن من شؤون الحياة .

هذا هو الذي وصمهم بالشرك وبالكفر ; مع إقرارهم بوجود الله سبحانه.  ومواجهتهم في مطلع هذه السورة بصفات الله هذه من الخلق للكون وللإنسان , ومن تدبيره لأمر الكون وأمر الإنسان ; ومن علمه وإحاطته بسرهم وجهرهم وعملهم وكسبهم . . إنما هو المقدمة التي يرتب عليها ضرورة إفراده سبحانه بالحاكمية والتشريع.

ولا تزال المشكلة نفسها قائمة في العرب خصوصاً ، وفي البشرية عموماً حتى هذه اللحظة ...

فليست المشكلة اليوم في ( إنكار الألوهيّة ) ، فالملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم قلّة ، بالرغم من الجهود الهائلة التي بذلها اليهود لهذا الغرض عبر القرون ، وهم الأعداء الحقيقيون ، والمحرّفون الأساسيون  للأديان  ، كما نعلم .!!!

ولكن اليهود أفلحوا في حقل آخر . وهو التلاعب في الأديان ، وتحويلها إلى مجرد مشاعر وشعائر . وطردها من واقع الحياة . وإيهام المعتقدين بها أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله ; مع أن هناك أربابا أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله. 

ولقد نال الإسلام من تآمرهم ما يدير الرؤوس ، لأنهم يعرفون من تاريخهم كله , أنه لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة . وأنهم غالبوا أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم ; مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله ! فهذا التخدير بوجود الدين - وهو غير موجود في حياة الناس - ضروري لتنجح المؤامرة.

وأحسب - والله أعلم - أن اليهود الصهيونيين , والنصارى الصليبيين , كليهما , قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك . . يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد - عن طريق المذاهب المادية - كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار . . ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين - فضلا على المسلمين - وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام , أو حتى ورث الإسلام !

وأحسب - والله أعلم - أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير ; فعدلوا إلى طرائق أخبث , وإلى حبائل أمكر . . لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام ; وتتمسح في العقيدة ; ولا تنكر الدين جملة . . ثم هي تحت هذا الستار الخادع , تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون , ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل !

إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله ; وتقصي شريعة الله عن الحياة ; وتحل ما حرم الله ; وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية ; وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية , وسحق التصورات والاتجاهات الدينية ; وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين , من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع , وجعلها فتنة للمجتمع , باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج ; بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف ! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه . . كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة ! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم , وأنهم هم كذلك مسلمون ! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون ?

أما أن تكون الحاكمية لله وحده ، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة ، وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين . وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين ; وفي دين الله ; بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين !

وإمعانا في الخداع والتضليل ; وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي , فإنها تثير حروبا مصطنعة - باردة أو ساخنة - وعداوات مصطنعة في شتى الصور , بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية , وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية , وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة !

تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة , لتزيد من عمق الخدعة ; ولتبعد الشبهة عن العملاء , الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه عبر القرون ، من تدمير القيم والأخلاق ; وسحق العقائد والتصورات ; وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول . . وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم . . وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين ; في غفلة من علماء الأمة ونخبها !

فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة ( بعض الإسلاميين الواعين ) ; ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف ; وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه ; ولوصف الكفر بأنه الإسلام ; والفسق والفجور والانحلال , بأنه تطور وتقدم وتجدد . .

إذا بقيت بقية كهذه ، سُلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة ( كما يحدث اليوم في سورية وغيرها ) ; وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا ( باسم التطرّف والإرهاب والأصوليّة ) , بينما مؤسسات ما يسمى بالأمم المتحدة ، ووكالات الأنباء العالمية ، وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء !!!

ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية , أو طائفية , لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ; ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة , وإلى منكرات صغيرة هنا وهناك ، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة . .

بينما الدين كله يسحق سحقا , ويدمر من أساسه ; وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون , وبينما الطاغوت - الذي أمروا أن يكفروا به - هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا !

إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة ; بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد , أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير , فترة طويلة من الزمان . .

إلا أن الأمل في الله أكبر ; والثقة في هذا الدين أعمق , وهم يمكرون والله خير الماكرين . وهو الذي يقول : (وقد مكروا مكرهم , وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله , إن الله عزيز ذو انتقام).