إشراقات من سورة الأنعام 9

د. فوّاز القاسم / سوريا

* إشراقات من سورة الأنعام ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض , وجعل الظلمات والنور , ثم الذين كفروا بربهم يعدلون * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3))

تبدأ السورة بالحمد لله . ثناء عليه , وتسبيحا له , واعترافا بأحقيته للحمد والثناء , على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء . .

وبذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى . . الخلق . . وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود . . السماوات والأرض . . ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود . . الظلمات والنور . . فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور , والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام , والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك . . لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم , وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون ; بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه : ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون). .

فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون , وآثارها الضائعة في النفس .

واللمسة الثانية : ( هو الذي خلقكم من طين , ثم قضى أجلا , وأجل مسمى عنده , ثم أنتم تمترون ): إنها لمسة الوجود الإنساني , التالي في وجوده للوجود الكوني . ولظاهرتي الظلمات والنور . لمسة الحياة الإنسانية في هذا الكون الخامد .

لمسة النقلة العجيبة من عتمة الطين المظلم إلى نور الحياة البهيج ;

تتناسق تناسقا فنيا جميلا مع "الظلمات والنور" . .

وإلى جانبها لمسة أخرى متداخلة : لمسة الأجل الأول المقضى للموت , والأجل الثاني المسمى للبعث . . لمستان متقابلتان في الهمود والحركة كتقابل الطين الهامد والخلق الحي في النشأة . .

واللمسة الثالثة : تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد ; وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء: ( وهو الله في السماوات وفي الأرض , يعلم سركم وجهركم , ويعلم ما تكسبون). .

إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض . هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء . وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما , من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما , وائتمار بأمره وحده . وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان . فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض ; وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض ; وما رزقه من خصائص جعلت منه إنسانا رزقه إياه الله.  وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له - رضي أم كره - يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله , لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه:

فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنينا وجوده !

وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة !

وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه ;

ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له .

وهو يحس ويتألم , ويجوع ويعطش , ويأكل ويشرب . . وبالجملة يعيش . . وفق ناموس الله , على غير إرادة منه ولا اختيار . .

 شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء .

والله - سبحانه - يعلم سره وجهره . ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره .

والأليق به أن يتبع - إذن - ناموس الله في حياته الاختيارية - فيما يتخذه من تصورات اعتقادية , وقيم اعتبارية , وأوضاع حيوية - لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله ; مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله . ولكي لا يناقض بعضه بعضا , ولا يصادم بعضه بعضا ; ولا يتمزق مزقا بين ناموسين وشرعين : أحدهما إلهي والأخر بشري وما هما بسواء . .

يا للروعة الباهرة ... ويا للمسة الساحرة ...

ألا ، فهل هناك لغة في الوجود قادرة على التعبير والسحر والايجاز والإعجاز والإفحام والإقناع والإبهار كمثل هذا القرآن العظيم .!؟

ألا ، فما أتعس المحجوبين بعقولهم وأرواحهم عن هذا الألق وهذا العبق ، وهذه الروعة وهذه العظمة ، وهذا البهر وهذا السحر ، وهذا الإعجاز وهذا الإنجاز .!!!