دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 9

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

القدوة الجهادية الراشدة والنزاهة المالية( 9 )

د. فوّاز القاسم / سوريا

إن من أهم الصفات التي يتميّز بها القائد الناجح ، هي صفة القدوة ، فبها يكسب قلوب جنوده وثقتهم ، وبها يأسر ضمائرهم ، ويقودهم على طريق المكرمات حيث يريد ..

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأصحابه في كل شيء ، وطيلة حياته المباركة .

ولعل من أروع أمثلة القدوة لهذا الرسول الكريم ، صلى الله عليه وسلم ، هي :  تقديم نفسه الشريفة وآل بيته الأطهار ، في المغرم ، وعفتهم في المغنم  ..

فقد كان صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأصحابه في المحن ، و كان يدرِّب آل بيته الأطهار على ذلك أيضاً ، فقد كلَّف ابن عمه عليّ كرّم الله وجهه ، للمبيت في فراشه ليلة هجرته الشريفة ، في أروع عملية استشهاد فدائية في ذلك العصر، وكذلك هو الحال في المرحلة المدنية…

فأول غزوة في سبيل الله ، قادها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وهي غزوة وَدّان ، التي حدثت في صفر ، على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة المنورة .

وأول سريّة في الإسلام ، كلَّف بها رجلاً من آل بيته ، وهو عبيدة بن الحارث ، وفي رواية حمزة بن عبد المطلب ، رضي الله عنهما .

وأول مبارزة في الإسلام ، ندب لها مجموعة من آل بيته الأطهار .

قال ابن اسحاق متحدثاً عن معركة بدر : ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة ، وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، هم : عَوْف ، ومُعَوِّذ ، ابنا الحارث _ وأمهما عفراء _ ورجل آخر ، يقال:  هو عبد الله بن رواحة ، فقالوا : من أنتم ؟

قالوا : رهط من الأنصار . قالوا : ما لنا بكم حاجة ، ثم نادى مناديهم :  يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ؛ وفي رواية ، قالوا لهم : أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ . هشام 1 ( 625 )

بل يجب أن نعلم أيضاً ، بأن حمزة رضي الله عنه ، هو أول من قاتل في بدر ، حتى قبل أن تنشب المبارزة!

قال ابن اسحاق متحدثاً عن بدر أيضاً : وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، وكان رجلاً شرساً سيء الخُلُق ، فقال : أعاهد الله لأشربنَّ من حوضهم ( يعني المسلمين ) ، أو لأهدمنَّه ، أو لأموتنَّ دونه .!

فلما خرج ، خرج له حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، فلما التقيا ، ضربه حمزة فأطنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد ( زعم ) أن يبرَّ بيمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .        هشام 1 ( 625 )

وهكذا بالنسبة لبقية المعارك والمشاهد ، التي وقفنا على بعضها في الصفحات السابقة ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآل بيته الأطهار رضوان الله عليهم ، أكثر الناس حضوراً ، وأعظم الناس تضحية ، وأشد الناس بلاءً ، هذا في المغارم ..

وأما في المغانم ، فلقد كانوا أعفَّ الناس ، وأزهد الناس ، وأكرم الناس .

قال ابن اسحاق ، يحدّث عن أموال هوازن وسباياها ، وعطايا المؤلفة قلوبهم ، وإنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآل بيته رضوان الله عليهم ، على الناس فيها : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف ، وكان معه من سبي هوازن ، ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشَّاء ، ما لا يُدرى ما عدّته .!

قال : ثم إن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أسلموا ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا أصلٌ وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك ، فأعاد إليهم نساءهم وذراريهم ثم قسّم الأموال والغنائم بين أصحابه وهو يقول : والله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نَعَمَاً لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذّاباً ، ثم قام إلى جنب بعير ، فأخذ وَبَرَة من سنامه ، فجعلها بين أصبعيه ، ثم رفعها ، ثم قال : (( أيها الناس ، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة ، إلا الخُمُس ، والخُمُس مردود عليكم)).!

ولم يكتف بذلك ، بل حرَّم الصدقة على نفسه الشريفة ، وعلى آل بيته الأطهار رضوان الله عليهم .

فلقد أورد ابن هشام في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قوله : (( وأن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يُزكى بها على فقراء المسلمين ، وابن السبيل )). هشام 2 ( 590 )

ولقد اقتدى بهذه الأخلاق الربانية ، آل بيته الأطهار رضوان الله عليهم ، فكانوا قدوة للمسلمين في العفة والترفع .

قال ابن هشام : إن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ، دخل يوم حُنَيْن على امرأته  فاطمة بنت شيبة بن ربيعة ، وسيفه يقطر من دماء المشركين ، فقالت : والله إني قد عرفت أنك قد قاتلت ، فماذا أصبت لنا من أموال المشركين !؟ فقال : دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك ، فدفعها إليها ، فلما سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شيئاً فليرده ، حتى الخياط والمخيط ، رجع عقيل إلى زوجته وقال لها : والله ، ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت ، فأخذها ، وألقاها في الغنائم .!!! هشام 2 ( 492 )

فمن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأصحابه الكرام ، وآل بيته الأطهار ، فيتقدّم الصفوف عند البذل والتضحية والعطاء ، ويتأخر ويعفّ عند الأخذ وتقاسم الكعكة كما يقولون ، وهل هناك كعكة في الوجود أعظم من الجنّة ...!!!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(( يا أيها الذين آمنوا ، هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ، يغفر لكم ذنوبكم ، ويدخلكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ، ومساكنَ طيّبةً في جنّات عدن ، ذلك الفوز العظيم ، وأخرى تحبّونها ، نصرٌ من الله وفتحٌ قريب )) الصفّ ( 10)     صدق الله العظيم