حديث الجمعة : ما الذي يجب على أمة الإسلام إذا فشا فيها وباء ؟

لا يمكن للإنسان خوض غمار الحياة الدنيا دون خلفية أو عقيدة تتحكم في سلوكه أفعالا وأقوالا . ولا تخلو هذه الخلفية أو العقيدة من أن تكون إما سوية أو منحرفة ، والناس باعتبار ذلك إما على صراط  الله المستقيم أو على سبل متفرقة بهم عن سبيله مصداقا لقوله عز من قائل : ((  وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ))  ، فباعتبار هذا النص القرآني  يكون خوض غمار الحياة إما عبر سبيل سوي ارتضاه الله عز وجل للناس  أو عبر سبل متفرقة عنه حذرهم منها .

ومع أن الناس يواجهون ظروفا أو أحوالا واحدة في حياتهم ، فإن مواقفهم منها وتصرفاتهم تختلف حسب ما يعتقدون أو حسب ما يتبعون إما سبيل الله عز وجل الذي وصفه بالصراط المستقيم  وإما  السبل المتفرقة عنه . والملاحظ أن الله تعالى جعل مقابل سبيله الوحيدة سبلا متعددة، الشيء الذي يعني تعدد ما يعتقده الناس مما لا يوافق ما أوجب عليهم سبحانه وتعالى اعتقاده، وهو إيمانهم بأنه خالقهم ، وأنه خلقهم ليختبرهم في هذه الحياة السائرة إلى زوال  ليسائلهم عما فعلوا فيها وليحاسبهم على ذلك ويجازيهم كل حسب فعله في حياة أخرى لا زوال لها .

وإذا ما وقفنا عند كل حال يمر بها الناس في هذه الحياة الدنيا ، فإننا سنجد اختلافا في مواقفهم  وتصرفاتهم إزاءها، لأنهم لا يخوضون نفس السبل، ولنأخذ كمثال فشو وباء  معد فيهم  كما هو حالهم اليوم مع الفيروس المتوج " كورونا " .

 إننا ونحن نتابع التغطية الإعلامية للوباء الذي يسببه هذا الفيروس، نلاحظ أن الجامع بين الناس في المعمور هو الخوف منه لكنهم ليسوا سواء في مواجهته  سيكولوجيا ،لأنهم يختلفون فيما يخص قناعتهم بعلة وجودهم في هذه الحياة ،ذلك أنه ليس من يعتقد منهم أنه وجد للاختبار كمن لا تصح عنده هذه القناعة . وبناء على هذا  من المفروض ألا يكون خوف المقتنع منهم بالبعث والحساب من هذا الوباء  كخوف غير المقتنع منهم  بذلك ، فالأول مطمئن البال لا محالة لاقتناعه بالرحيل من دنيا زائلة إلى أخرى لا زوال لها ، والثاني يائس من حياة أخرى بعد الزائلة ، ومن كانت هذه قناعته كان خوفه من الوباء الذي يتهدد حياته  أشد  لأنها بالنسبة  إليه فرصته الوحيدة التي لا تعوض .

ومعلوم أن قناعة من يؤمن بالله عز وجل تفرض عليه الإيمان بالقدر خيره وشره ، وتفرض عليه أن تكون مرجعيته التي تحكم مواقفه وتصرفاته هي ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعندما نعود إلى هذه المرجعية فيما يخص طريقة أو أسلوب التصرف  في حال  فشو الوباء في الناس نجد أمامنا نصوصا من الكتاب والسنة تحدد الموقف الذي يجب أن يكون لمن هم داخل دائرة الإسلام ، ونذكر منها ما يلي :

ـ قول الله عز وجل : (( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا )) وسبب نزول هذه الآية هو تخلف بعض المنافقين عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما كانت العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها ، فإن الحكم المترتب عنها هو أن يكون المسلم على قناعة تامة وجازمة بأنه لا يصيبه إلا ما كتب  الله له في اللوح المحفوظ .

ـ و مثل ذلك قوله تعالى : (( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا )) فهذه الآية تؤكد معنى الآية السابقة ،وهي أن المصائب بما فيها مصيبة الموت إنما هي مما دوّن في اللوح المحفوظ وفق آجال محددة بكل دقة ، وأنه لا يمكن أن يموت الإنسان دون إذن واهب الحياة سبحانه وتعالى ، والمعتبر هو حلول الآجال وليس أسبابها التي جعلها الله تعالى متعددة ، ودون حلول الآجال لا يمكن لهذه الأسباب مهما بلغت خطورتها على حياة الإنسان أن تفعل فعلها .

ومن رسخت لديه  القناعة بما جاء في الآيتين الكريمتين عاش مطمئنا مرتاح البال بينما من غابت عنه هذه القناعة عاش القلق والفوبيا مهما كان  نوع  أو حجم السبب الذي  يراه مهددا لحياته.

وإلى جانب هاتين الآيتين الكريمتين  توجد أحاديث نبوية تلزم الإنسان المسلم بسلوك معين عند فشو الوباء نقتصر على ذكر واحد منها رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى: " عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون ، فأخبرها أنه كان عذابا يبعثه الله تعالى على من يشاء ، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين ، فليس من عبد يقع في الطاعون ، فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد "ّ ، فهذا الحديث الشريف يتضمن  توجيها نبويا في حال فشو الوباء وهو وحي من الله عز وجل ، وفيه أن الأصل في الوباء أنه عذاب يبعثه الله عز وجل على من يشاء ، وكونه عذابا دليل على أنه كان يصدر ممن يبعث عليهم من الأعمال ما يستوجب بعثه إلا أنه إذا أصاب أهل الإيمان تحول من نقمة إلى نعمة ومن عذاب إلى رحمة . وهذا التحول إنما يحصل بسلوك معين يسلكه المصاب المؤمن بالوباء القاتل، وهو بقاؤه حيث الوباء لا يغادرمكانه وهو صابر على ذلك ومحتسب أجره عند الله عز وجل ، وعلى قناعة تامة وراسخة لا تتزعزع بأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله عز وجل له ، ويكون أجره مثل أجر الشهيد سواء مات بالوباء أم نجا منه ،لأن الأعمال بالنيات . وبهذا يزول الخوف عند من كانت له هذه القناعة لأنه واثق  بالفوز بمثل أجر الشهيد في حال هلاكه وفي حال نجاته على حد سواء لصبره واحتسابه ويقينه بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عز وجل له ، وهو إيمان بقدره سبحانه وتعالى وتسليم به .

ومع أننا كمسلمين  غالبا ما نؤمّن جميعا على دعاء نسأل فيه الله تعالى أن يكتب لنا الشهادة ، وأن هذا الحديث الشريف يبشرنا بالشهادة إذا فشا فينا الوباء وصبرنا واحتسبنا ورابطنا في البلد المصاب ، فإننا في زمن رقّ فيه تديننا  يشكل غير مسبوق ، وضعف فيه الوازع الديني  عندنا ،صرنا لا نختلف في شيء عمن لا يدين بديننا في مواجهة فشو البلاء ، لا صبر ولا احتساب ، ولا رباط في بلده حيث صار الناس يفرون منه إلى غيره وفيهم من أصيب به وهو يتعمد نقله  ليتسع مجال الإصابة ، ومن هؤلاء محسوبون على الإسلام، وهو ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف .

ويبدو التناقض واضحا عند من يتمنى على الله عز وجل الشهادة ، وهو  يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكث حيث فشا الوباء وهوصابر محتسب مستيقن أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله عز وجل  له سواء قضى شهيدا أم مد سبحانه وتعالى في عمره  ما شاء إلى أجل معلوم .

ومما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الفار من الطاعون كالفار من الزحف ، والصابر فيه كالصابر في الزحف " ، فهذا الحديث فيه تحذير من الفرار من الوباء إذا فشا في الناس ، وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفار منه بالفار من الزحف أو الجهاد ، كما وصف الصابر عليه كالصابر على الزحف أو الجهاد . وإذا كان أجر الصابر في الجهاد هو الشهادة سواء قتل أم لم يقتل ، وكان عقاب الفار منه هو غضب الله عز وجل وعذاب النار مصداقا لقوله تعالى :      (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولّوهم الأدبار ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبيس المصير )) ، فإن حكم الصابر على الوباء والفار منه كحكم الصابر على الزحف والفار منه كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولا يمكن أن يتذرع أحد  في حال فشو الوباء بالاستثناء الوارد في قول الله تعالى (( إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة )) ، وهو استثناء خاص بالجهاد ،علما بأن المتحرف لقتال هو من يخدع العدو بالتظاهر بالفرار للكرعليه  ثانية  والنيل منه ، والمتحيز هو من يدير ظهره ولكن يكون تحيزه  لفئة مؤمنة، وليس في مواجهة الوباء  مثل هذا سوى الصبر والثبات والاحتساب حتى يقضي الله عز وجل بقضائه ، وهذا لا يعني عدم الأخذ بأسباب مواجهة الوباء بما ينصح به الأطباء من حمية ووقاية وعلاج في البلد المنكوب، لأن تلك الأسباب شبيهة بالأسباب التي يؤخذ بها في الزحف والتي قال عنها الله عز وجل : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )) . وكما يبذل الجهد في إعداد العدة للزحف ، يجب أن يبذل أيضا الجهد في الإعداد لمواجهة الوباء.

وبقي أن ننصح الأمة في هذا الظرف بالذات بالتزود بخير الزاد وهو تقوى الله عز وجل لمواجهة الوباء الذي حل بالناس في المعمور ، وهو زاد يلتمس في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وأخيرا نسأل الله عز وجل عافيته ،كما نسأله الثبات ، ونعوذ به من الفتنة في الدين ، والحمد لله المستحق للحمد في كل الأحوال ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .    

وسوم: العدد 866