رمضان ... هل أحسنَّا ضيافته

الإمام الشهيد حسن البنا

هاهو الضيف الكريم الذى أمتع المسلمين أيامًا معدودات بطلعته المشرقة وأوقاته المملوءة بالخير والبر يتأهب للرحيل، ويؤذنهم بالتوديع، ولكل أجل كتاب، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزىّ به.

فترى هل أكرم المسلمون وفادته، وأحسنوا قراه فهو شاكر ممتن؟ أم تثاقلوا عن واجبه ونسوا حقه فهو مغبون مهضوم؟ والضيف يحمد أو يلوم.

وهاهو ذلك الكتاب الناصع الصفحات من مذكرات الزمن لم يبق فى صحائفه إلا القليل، وقد طوى الكثير منها على ما احتواه من الخير أو الشر؛ فترى هل كتب المسلمون صحائف هذا الكتاب بمداد الصالحات، ووشوه بأنوار الطاعات والمبرات، وطرزوه بسنا الخلائق الغر والصون والطهر، وختموه بمسك الإنابة والاستغفار، أم أهملوها فطويت غفلا، وذهبت هباء، أو لوثوها بسواد العصيان كدروا نصاعتها بظلمة العدوان.

وهاهو ذلك الشهيد الذى أقام فينا شهرًا يعود ليؤدى مهمته، ويعلن شهادته، وينطق علينا بما رأى منا، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر؛ فهل قدر المسلمون ذلك فجعلوا أعمالهم حجة لهم لا حجة عليهم؟.

وهاهى مركبة الزمن التى أرسلها الله لعباده قد قطعت مرحلتها، وسارت إلى غايتها؛ حيث تتوارى بالحجاب بما تحمل من خيرات أو آثام، ثم يحفظ كل ذلك لأهله، ويرى كل إنسان ما قدم من عمله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران: 30]،

فهل رأى المسلمون هذه المركبة وهى تسير؛ فحلوها من الصالحات ما يرونه محضرًا يوم القيامة تقر به نفوسهم وتنشرح له صدورهم.

وأخيرًا هاهو شهر رمضان العظيم المبارك ينقضى تباعًا ولم يبق فيه إلا الدماء؛ فكيف كان المسلمون فى هذه الأوقات المباركات؟

أنت يا أخى واحد من رجال؛ إما رجل عربيد مستهتر لا يقدس حرمة الأيام، ولا يعترف بقداسة التكاليف؛ فرمضان وغير رمضان عنده سواء؛ فهو فى كلها سادر فى غلوائه، ماض فى خيلائه، غارق فى بلوائه، مطمئن إلى مسلكه، آنس بما يرتكب من بوائق وآثام؛ فهذا الرجل أهان الضيف، ولوّث صحائف الكتاب وأغضب الشهيد، وحمَّل المركبة ما تنوء به من الشرور والمفاسد، وهو إن أراد النجاة فالسبيل معبدة، والعودة ممكنة، والتواب كريم، وباب الرجوع لما يقفل وإنه غفور رحيم، وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وما أجمل أن يتوب هذا المسرف من ذنبه، ويرجع إلى ربه؛ فيبدل سيئاته حسنات، ويرفعه إلى أعلى الدرجات، وسبحان من نفع المسلمين بقاتل حمزة.

وإما رجل لاهٍ غافل، مر به رمضان كما تمر السحابة بالقوم النيام، لم يروها ولم تمطرهم؛ فلا هم شعروا بظلها، ولا هم استفادوا من خيرها، وهذا الرجل حرم فضل الضيافة، ووثاقة الكتابة، ومعاهدة الشهيد وترك المركبة فارغة، وهو فى مسيس الحاجة إلى ما تحمل من خير وبر، وأولى له أن يبادر فى البقية الباقية من أيام رمضان فيسترضى ضيفه بما يقدم من قراه، ويستوثق لنفسه بما يدون فى صحف هذا الكتاب، ويكتسب الشهيد بما يعمل بين يديه من خيرات، ويملأ المركبة بما استطاع من طاعات، وقد يبارك الله فى هذا القليل فيعود خيرًا كثيرًا، والله ذو الفضل العظيم.

وإما رجل حازم حكيم، علم بمقدم الضيف فأعد له العدة وأكرم الوفاء ولاقاه بالبشر.

وقال له أهلا وسهلا ومرحبًا فهذا مبيت صالح ومقيل

يبتسم لكل ساعة من ساعات الشهر، ويكرمها بطاعة من طاعات الرب؛ فتمضى لاهجةً بشكر صنيعه رائبة فى الثناء عليه، وعلم أن صفحات الكتاب هى تقارير عمله، فدون فيها ما يرفع منزلته ويعلى رتبته؛ فهى وثيقته بين يدى مولاه وحجته عند ربه، ورأى الشهيد ناظرًا إليه ورقيبًا عليه فلم يُرِهِ إلا ما تقر به عينه من صلاة وصيام وتلاوة وقيام وصون وطهر وصدقة وبر ومسارعة إلى الخير؛ فكانت الشهادة برهانًا له وسندًا يعتد به، ورأى المركبة تمر تباعًا وتمشى سراعًا، فحمَّلها فى كل خطوة خيرًا كثيرًا؛ فهو جدير أن يكون غنيًّا بما قدم سعيدًا بما عمل مطمئنًا إلى عاقبة أمره (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8).

وهذا الشخص حقيق أن يضاعف مجهوده، ويزيد فى يقظته، وعند الصباح يحمد القوم السرى، ولأمر ما كان صلى الله عليه وسلم إذا أقبل العشرُ الأواخر من رمضان شمر وأيقظ أهله وشد المئزر.

فأى الأشخاص كنت أيها الأخ الكريم؟

أيها المسلمون، هاهو رمضان يؤذنكم بالرحيل، وقد كان فيكم أستاذًا يملى عليكم مبادئ الرجولة الصحيحة، ويربى فيكم الإرادة القوية، ويُعَوِّدكم الاحتمال والصبر، ويرسم لكم طريق الحرية، ويكشف عن بصائركم حجب المادة؛ حيث تسمو إلى أفق الملائكة، ويعلمكم الفقه عن الله -تبارك وتعالى- والفهم لكتابه ودينه وآياته، ولكل أستاذ أثره؛ فكيف كان شهر رمضان فى نفوسكم؟

زنوا أنفسكم وتعرَّفوا أثر رمضان فى أرواحكم، وانظروا: هل قويت إرادتكم فأصبحتم قادرين على الاستغناء عن التوافه من المتع فى سبيل العظائم من المكرمات؟

وهل تعودتم الصبر على الشدائد فأصبحتم قادرين على التضحية فى سبيل الوصول إلى أنبل الغايات؟ وهل كُشف عن بصائركم الحجاب فأدركتم حقارة أعراض هذه الحياة الدنيا إلى جانب عزة النفس ووفرة الكرامة وحرية الضمير وسعادة الروح؟

وهل تفقهتم فى دين الله وتفهُّم آياته فأصبحتم تتجاوزون الألفاظ الجامدة إلى المعانى السامية، والتقاليد الفاسدة إلى لب التشريع وأسرار التنزيل؟ إن كان ذلك كذلك فاحمدوا الله على ما هداكم، وإن لم يكن ذلك كذلك فاجتهدوا فى هذه اللحظات الباقية أن تصقلوا مرآة أرواحكم، وتطهروا أدران نفوسكم وتنتفعوا بفيض الله -تبارك وتعالى- فى شهركم؛ فإن فعلتم فسوف تدركون -إن شاء الله- وإن أعرضتم فقد بلغت.. اللهم اشهد.

المصدر : مجلة الإخوان المسلمون – السنة الأولى – العدد 26 – صـ1 : 3 – 25رمضان 1352هـ

******************

متى عيدنا ؟

( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)  (البقرة: 185).

بتصرف من مقال للإمام الشهيد حسن البنا

أما عيدنا الشرعى فهو عيد الفطر غرة شوال، بعد أن تتم فريضة الصوم التى هى ركن من أركان الدين، وحق من حقوق رب العالمين، وصدق الله العظيم  ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)  ( البقرة: 185).

ولهذا العيد شعائر يجب أن نتعرفها ونعلنها، ونحافظ عليها ونقوم بها (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).

فمن شعائره زكاة الفطر التى شرعها الإسلام برًا بالفقراء والمساكين، وتدعيمًا لروح التكافل الاجتماعي بين الأمة الواحدة بمناسبة هذا الموسم المبارك، وأنسب أوقاتها قبيل العيد وليلة العيد، وأفضلها شرعًا بعد صلاة الفجر من يوم العيد إلى الصلاة، ويجوز إخراج قيمتها نقودًا إذا كان ذلك أنفع للفقراء، والكيلة من الحبوب تجزئ عن أربعة أو ستة؛ فمن كان فى يسر فليأخذ بالأول وهو الأحفظ، ومن قدر عليه رزقه فليأخذ بالثانى، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، ويخرجها الإنسان عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم، وتجب على كل قادر عليها مستطيع لها، ومن تطوع خيرًا فهو خير له.

ومن شعائر العيد إحياء ليلته بذكر الله تبارك وتعالى، وشكره على ما وفق إليه من إتمام شهر الصوم، وتجديد التوبة، والاستعداد لما بعد رمضان بالعزم الأكيد على المحافظة على طاعة الله -تبارك وتعالى-، والبعد عن معصيته؛ فإن الله -تبارك وتعالى- باق لا يفنى، ولا يزول، ولا تغيره الأيام ولا الشهور، وهو المعبود المقصود فى كل آن؛ فعلينا أن نجدَّ فى طاعته فى غير رمضان، كما كنا نجدُّ فى رمضان.

ومن شعائره أن تؤدى صلاته فى وقتها، وأن يشترك المسلمون فى إحيائها وحضورها، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النساء والفتيات وذوات الخدور إليها حتى الحائض منهن يشهدن الخير وجماعة المسلمين.

ومن شعائره بعد ذلك التزاور والتواد، ونسيان الشحناء والبغضاء والحزازات، وصلة الأرحام، وتفقد الأقارب، والإكثار من الصدقة على الضعفاء والأيتام.

ومن شعائره التحرز من معصية الله؛ فإن شكره -تبارك وتعالى- لا يكون بمعصية، ولكن يكون بطاعته، وما درج عليه الناس وخاصة الشباب من التحلل من القيود والانطلاق من حدود الفضيلة والخلق بدعوى أنه يوم عيد ليعوضوا ما فاتهم فى رمضان وسوسة شيطانية، وإغراء وفساد، والأولى بهم والأخلق أن ينصرفوا إلى الطاعة والشكر لا إلى العربدة والسكر، والقلوب بيد الله، ونسأله تعالى صلاح الحال.

ذلك عيدنا الشرعى نقوم بشعائره امتثالا لأمر الله، واحتسابًا لما عنده، وإحياء لشعائره،

ولكن عيدنا الحقيقى ليس اليوم أيها المسلمون؛ فإن دعوتنا وبها حياة أرواحنا، وأرضنا وفيها صلاح أمرنا.. كل ذلك اليوم فى الميزان؛ فإن انتصرت دعوة الإسلام، وسادت غيرَها من الدعوات الفاسدة الطائشة الضالة المضلة التى لا حق فيها ولا خير، وتحررت أرضنا من براثن الغاصبين الظالمين المعتدين .....

والله أكبر ولله الحمد

المصدر: مجلة الإخوان المسلمين: السنة الخامسة، العدد 165، 29رمضان 1366هـ / 16أغسطس 1947م .

وسوم: العدد 878