( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )

من المعلوم أن الخالق سبحانه وتعالى  قد ختم رسالاته إلى خلقه بالرسالة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتغطي حاجتهم إلى هديه حتى تقوم الساعة. ومما جاء في هذه الرسالة كلامه سبحانه وتعالى عن هذا الذي أرسله  إليهم وقد قدمه إلى  ممن أدركتهم دعوته بأوصاف تدل على المكانة التي يحظى بها عنده سبحانه وتعالى ،وأوجب عليهم ما ينبغي له من تعظيم وتعبدهم بذلك .

وعلى تعدد تلك الأوصاف سنقف عند قوله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) لأن صيغة هذه الآية كما ذهب إلى ذلك أهل العلم تجعل الرسول والرسالة شيئا واحدا ، وهما معا نعمة ومنة عبارة عن رحمة من الخالق سبحانه وتعالى للخلق ورحمة بهم. وبيان اجتماع الرسول والرسالة في هذا الوصف أن الله عز وجل ضمّن رسالته الخاتمة للعالمين رحمته التي تحصل باتباع ما فيها من هديه ، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو المؤهل  الوحيد للترجمة العملية أو الإجرائية لتلك الرحمة على الوجه المراد عنده سبحانه وتعالى ،  ولا يحصل شيء منها للعالمين دون اتباعه والاقتداء به ، وهذا ما يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم :" إنما أنا رحمة مهداة " .

فلولا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لما تحققت الرحمة للخلق  ، ذلك أن الرسالة ولو أنها اشتملت على هدي تحصل به الرحمة إلا أنها  لا تحصل دون تنزيل أو ترجمة الرسول  صلى الله وسلم لها  ليكون بالإمكان الاقتداء به في ذلك على الوجه الصحيح .

والملاحظ أن الآية الكريمة ، والحديث النبوي الشريف معا وردا بأسلوب حصر أو قصر ، وهو قصر الصفة على الموصوف، وقصرالموصوف على الصفة أو إثبات حكم للمذكور ونفيه عما سواه ، أو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص ، وهو عند البلاغيين قصر حقيقي تحقيقي، وليس ادعائيا ،ذلك أن الرحمة المشار إليها في قوله تعالى والمنصوص عليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصورة على الرسول عليه الصلاة والسلام ومنفية عن كل ما عداه من حيث واقع الحال وحقيقة الأمر، وهو خلاف القصر الحقيقي الادعائي كما هو الشأن في قوله تعالى : (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) ،ذلك أن خشية الله تعالى ليست مقصورة على العلماء دون سواهم بل قد يكون غيرهم أشد خشية له منهم ، بينما الرحمة المقصودة في قوله تعالى ، وفي قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يشترك  معه فيها أحد من الخلق ، ولا اعتبار لقول قائل إن في الخلق أيضا رحمة لأن هذه الأخيرة ليست المقصودة في قول الله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ،ولا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا رحمة مهداة "، ذلك أنه مهما تكن في الخلق من رحمة ، فلا يمكن أن تبلغ درجة الرحمة المهداة  بل كل رحمة في الخلق إنما هي من فضل وبركة  تلك الرحمة المهداة .

وكلمة رحمة تشمل الرقة، والشفقة، والرأفة، والعطف، واللين ،واليسر...فهي  تدل على مجموعة من الأفعال التي يستفيد منها المشمول بها ، ولا مندوحة لبشر عنها حيا أو ميتا أو مبعوثا ، وهي بذلك نعمة ، ولهذا يكثر الخلق  سؤال خالقهم الرحمة في دعائهم . وفي الذكر الحكيم حكاية عن حملة العرش  وهم يدعون ربهم للذين آمنوا قوله تعالى : (( وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته )) ،فهنا تتجلى رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين من خلال صرف سوء عاقبة ما اجترحوه من سيئات في حياتهم الدنيا يوم القيامة . وهذه الرحمة نعمة منه سبحانه وتعالى . وكلمة نعمة ككلمة رحمة تدل على مجموعة أفضال يستفيد منها المنعم عليه ، منها رغد العيش ورفاهته وطيبه ... إلى غير ذلك مما يهنأ به العيش ، وتطيب به النفس .

وقوله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ،وقول رسوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا رحمة مهداة " يدلان على أن هذه الرحمة عبارة عن نعمتين نعمة الرسالة ونعمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما متلازمتان كما دل على ذلك أسلوب القصر أو الحصر . والرحمة تكون بالخلق وتكون لهم، وفي هي نعمة ، ذلك أن الرحمة بهم عبارة عن إشفاق عليهم من مكروه يتهددهم ، ولا يوجد أسوأ من مكروه عذاب مقيم في الآخرة لا يساويه عذاب يزول بزوال الدنيا ، وأما الرحمة التي تكون  لهم فعبارة عن أفضال على اختلاف أنواعها توهب لهم.

  وإذا ما اجتمعت الرحمة  التي تكون بهم مع الرحمة التي تكون لهم تتم لهم النعمة كما جاء في قوله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) ،فتمام النعمة هنا حاصل بكمال الدين الذي تم بالرسالة الخاتمة ،وبخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم وهي بذلك عبارة عن رحمة بهم ورحمة لهم .

وقوله تعالى إن رسالته ورسوله عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين يدل على أنها لا تقتصر على البشر وحدهم بل  تتعداهم إلى غيرهم من المخلوقات التي تشملها كلمة عالمين .

فحين تؤخذ الرسالة عن الرسول كما أنزلها المرسل سبحانه وتعالى، يحصل بذلك للمؤمنين كمال الدين ، ومن ثم تكتمل لهم نعمة المنعم سبحانه وتعالى . ولا يمكن أن يحصل ذلك إذا ما فرق الناس بين الرسالة والرسول، فهما معا رحمة مهداة   مسطورة في الرسالة ، ومتجسدة في الرسول  صلى الله عليه وسلم .

وتتجلى رحمة الرسالة والرسول بالمؤمنين في رفع الحرج  والإكراه عنهم فيما كلفوا به من عبادات بينهم وبين خالقهم ، ومن معاملات فيما بينهم مصداقا لقول الله تعالى : (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )) ، فالدين بعباداته ومعاملاته لم يجعل فيه الله تعالى ما يحرج  ،وذلك رحمة بالمؤمنين . وكل ما يظن حرجا في الدين الذي أرسل به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إنما هو توهم وسوء فهم وسوء وتقدير، فالعبادات بما فيها من تكاليف كلها ميسرة ،وبيان يسرها أنها ليست بالمستحيلة ولا بالمعجزة بل على هي قدر وسع المكلفين وفي متناولهم ، ويسرها رحمة من الله عز وجل الذي لا يسهل إلا ما جعله سبحانه  وتعالى سهلا.

فإذا ما أخذنا عبادة الصلاة على سبيل المثال، نجد أنها تتطلب طهارة كبرى وصغرى وتوقيتا معينا من الليل والنهار، وكيفية معلومة تؤدى بها من خلال  قيام وركوع، وسجود، وتلاوة ،وتشهد ... إلى غير ذلك مما تتطلبه إقامتها ، وكل ذلك ميسر بتيسير من الله عز وجل رحمة ونعمة منه .

 وقد يقول البعض إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر إسباغ الوضوء على المكاره التي تكون إما بسبب شدة البرد أوبسبب ألم الجسد... إلى غير ذلك من المكاره  ، فكيف يكون اليسر مع  هذه المكاره ؟ والجواب أن اليسر  كائن لا محالة  مادام الله عز وجل لم يجعل الحرج  في الدين ، ويتحقق ذلك بما شرعه من قبيل التخفيف  كسد تيمم الصعيد الطاهر مسد الوضوء إذا خيف حصول  الضرر به ... إلى غير ذلك من الرخص  في السفر والخوف . وحتى إذا ما امتنعت الرخص ، فإن الله عز وجل يريد بالمؤمنين اليسر، ولا يريد بهم العسر فيما تعبدهم به ، ويجدر بهم وإن أسبغوا الوضوء على المكاره  إما بسبب قسوة برد أو شدة ألم أو خوف  أن يكونوا على قناعة و يقين تامين أنه لا أيسر عليهم من ذلك. وعلى  يسر عبادة الصلاة يقاس يسر باقي العبادات ، ويسر المعاملات أيضا.

ومن رحمة الله تعالى  أيضا أن يجد المؤمنون طمأنينة  في قلوبهم وهم يدينون بدين الله عز وجل بل يجدون في ذلك لذة  لا تعدلها لذة كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وجعلت الصلاة قرة عيني " ، ولا تقر العين إلا بما ترتاح له النفس وتتلذذ به .  وبمثل هذا القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنتفي  كل المكاره المحتملة في إقامة الصلاة .وقرة عينه عليه الصلاة والسلام في باقي العبادات كقرة عينه في الصلاة ، الشيء الذي يعني أنه كان يتلذذ بعبادة الله عز وجل وبطاعته، وهو ما استحق به وصف المولى جل وعلا له : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ،وقد بينت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها طبيعة هذا الخلق بقولها حين سئلت عنه : " كان خلقه القرآن "، وهو ما يدل على تناغم رحمة الرسالة مع رحمة الرسول كما بيّن ذلك قوله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ، وبيان رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تخلّق بخلق رسالة الرحمة ،وترجمها إلى سلوك شاهد على رحمتها .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تكرار الإساءة إلى شخص الرسول الرحمة المهداة إلى العالمين بواسطة رسم كاريكاتوري  في فرنسا البلد العلماني الذي يجعل قيمه العلمانية تعلو قيم غيره ، وهو  يستبيح قيم غيره ، ويستخف بها علوا واستكبارا.

ومعلوم أن المساس بشخص سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يعد جحودا برحمة  المولى سبحانه وتعالى المهداة إلى العالمين . والسر وراء هذه الإساءة المتكررة هو أن الرحمة المهداة تفضح افتقار علمانية فرنسا وغيرها من العلمانيات الغربية إلى الرحمة بالرغم مما تدعيه وتتبجح به من صواب وتفوق قيمها وهيمنتها حتى أنها تجعلها ملزمة وواجبة ، والحقيقة أنها  تتغاضى عما تتخبط فيه من تناقضات إذ كيف تكون الحرية  الفرد فيها على حساب حرية الفرد في غيرها؟ وهي لا ترى  بأسا في أن يتجرأ أبسط فرد من أفرادها على أعظم فرد عند غيرها .

ونظرا لمكانة الرسول الأعظم عند الله عز وجل تعتبر الإساءة إليه إساءة إلى كل البشرية وإلى  كل العالمين ، وهي مصادرة للرحمة المهداة إليهم . وكل من يحول دون وصول هذه الرحمة إليهم يعتبر معتديا على حقهم في تلك الرحمة أو لنقل في تلك النعمة .

والموضوعية تقتضي من كل من أحاط علما بالرحمة المهداة أو لمسها في حياته بشكل أو بآخر أن يقر بها وإن لم يدن بدين رسالة الرحمة الخاتمة .

اللهم إنك قد رفعت ذكر حبيبك المصطفى عليه الصلاة والسلام منك ، فعليك بما شئت بمن أراد النيل منه . اللهم اشغل  بما تريد من بأسك الشديد من أراد  سوء بذكره الذي رفعته . اللهم زدنا محبة فيه ، وشوقا إليه ، وتعلقا به ، وتخلّقا بما خلّقته ، اللهم اجعله لنا شفيعا يوم لا شفاعة إلا شفاعته . اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار ما دام الليل والنهار .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات حمدا يرضيه ويرضى به عنا . 

وسوم: العدد 901