( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد )

تحدث الله عز وجل في محكم التنزيل عن تعامله مع خلقه فيما بخص حظوظهم من الحياتين العاجلة الزائلة ، والآجلة الدائمة . وأخبر أن حظوظهم منهما تكون وفق ما يريدون . وهم في نهاية الأمر صنفان : صنف  يرغب في الحصول على حظه من العاجلة وهو منكر لوجود حظ له في الآجلة بل منكر لهذه الأخيرة أيضا ، وهذا الصنف يعجل له الله تعالى حظه من العاجلة وفق مشيئته وإرادته سواء وسع عليه في ذلك أم لم يوسع عليه ، وصنف يرغب في الحصول على حظه منهما معا ، وهو يعتقد بأن خالقه قد جعل له حظا في الآجلة كما خصّه بحظ في العاجلة . وهذا ما جاء في محكم التنزيل في قوله تعالى : (( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )). ففي هاتين الآيتين من سورة الإسراء، كشف الله عز وجل نوعين من السعي يسعاهما الناس في هذه الحياة الدنيا ،سعي تطلب به حظوظ الدنيا لا يجاوزها إلى  حظوظ الآخرة ،هو سعي من لا يعتقدون بوجود الآخرة ، ولا بوجود علاقة بينها وبين سعيهم  في الدنيا ، وسعي آخر في الدنيا  لكن يراد به الآخرة ، وهو سعي من يعتقدون بوجود هذه الأخيرة ، وبوجود علاقة بينها وبين سعيهم في الدنيا . والفرق بين السعيين يتوقف على الإيمان بالله عز وجل، وبأنه جعل الدنيا دار اختبار ، والآخرة دار جزاء . ولمّا كانت الدنيا دار اختبار، فقد مكن الله تعالى  فيها المؤمن به وغير المؤمن  على حد سواء بما يقتضيه الاختبار من حظوظ بحيث ينال كل منهما حظه منها حسب مشيئة وإرادة الله عز وجل . وقد ورد في قول الله تعالى ذكر المشيئة والإرادة ولهما نفس الدلالة  إلا أنه سبق ذكر المشيئة ذكر " ما " التي  تستعمل لغير العاقل ،  بينما سبق  ذكر الإرادة  ذكر " من " التي تستعمل للعاقل، فقال سبحانه : (( ما نشاء لمن نريد )) ،وقد جعل المشيئة للحظوظ ، وجعل الإرادة لأصحابها ، فهو سبحانه لقدرته يشاء ويريد ،علما بأن ما يشاءه وما يريده يكون محققا وكائنا مصداقا لقوله تعالى : (( إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )) ،فهو سبحانه يشاء أن تكون الحظوظ للعباد في الدنيا، فيقول لها كوني فتكن ، ويريدها لهم فيقول لها كوني فتكن لكل  واحد منهم حسب ما أراده له منها ، ولهذا قد تتساوى حظوظ الخلق  من الدنيا مؤمنهم وكافرهم ، وقد تتفاوت فتكون حظوظ من كفروا أكبر أو أكثر من حظوظ من آمنوا، والعكس صحيح لكن باعتبار الطبيعة الاختبارية للحياة الدنيا تكون الحظوظ فيها هي مدار أو موضوع الاختبار ، ذلك أن من قصر همه في التعامل مع حظوظ الدنيا عليها منكرا طبيعتها الاختبارية ، فإن الله تعالى يعجل له  فيها من تلك الحظوظ  ما يشاء  إما توسيعا أو تضييقا  ، ومن أراد بها الآخرة  معتقدا أو مؤمنا بطبيعة العاجلة الاختبارية أعطاه من حظوظها أيضا ما يشاء توسيعا أو تضييقا ، وادخر له حظوظ الآجلة  وهي خلاف حظوظ الدنيا لأرتباطها بالجزاء بينما حظوظ الدنيا تتعلق بالاختبار ، و بهذا يكون الفرق بين من أراد حظوظ العاجلة وبين من أراد حظوظ  الآجلة مع تساويهما في حظوظ العاجلة مع تفاوت في مقاديرها  بينهما هو أن يخسر مريد حظوظ العاجلة حظوظ الآجلة مقابل  بينما يفوز مريد  حظوظ الآجلة مع استفادته من حظوظ العاجلة كاستفادة مريد حظوظ العاجلة  .

 ومريد  حظوظ الآجلة لا بد له من شرطين : الأول هو أن يكون  مريدا بسعيه في العاجلة  حظوظ الآجلة أي يتصرف في حظوظه في الأولى بما يبلغه حظوظ  الأخرى التي هي للجزاء  ، أما الشرط الثاني فهو كونه مؤمنا مصداقا لقوله تعالى : (( وهو مؤمن )) ،أي والحالة أنه مؤمن ،لأن الإيمان من أركانه بعد الإيمان بالله تعالى الإيمان باليوم الآخر الذي هو يوم جزاء يجازى فيه الخلق عن سعيهم في الدنيا الاختبارية بما مكنهم  خالقهم  فيها من حظوظ ، وسعيهم فيها  هو موضوع الاختبار .

حديث هذه الجمعة هو رد على ما  يثيره البعض  بخصوص  حظوط من لا يؤمنون بالآخرة من جزائها على سعيهم في الدنيا ، وقد يسخرون ممن يقول بأنهم لا حظوظ لهم  وينكرون عليهم ذلك ، وهو في الحقيقة  إنكار لما جاء في كتاب الله عز وجل وهو  يخبر أنه يؤتيهم حظوظهم في الدنيا وفق إرادته ومشيئته،  ولكن لا يجعل لهم حظوظا في الآخرة .

وواضح أنه من  الغريب  بل من العبث أن يثير منكرو الآخرة  موضوع جزائهم فيها ، ويريدون  من سعيهم الذي  يقصرونه على دنياهم منكرين  طبيعتها الاختبارية مع إنكارهم طبيعة الآخرة الجزائية أن يكون لسعيهم فيها  اعتبار فيجازون  عنه ،وهم لم يسعوه لهذا الغرض بل سعوه لأغراض دنيوية، ونالوا ثمراته في دنياهم.

ومثل هذا القول يرد عليه بما سبق في الآيتين الكريمتين السابقتين من سورة الإسراء ، وبقوله تعالى أيضا  في سياق الحديث عن الذين لا يرجون لقاءه أي لا يؤمنون بالبعث أو بالآخرة وبطبيعتها الجزائية : (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثورا )) أي لا اعتبار له في الآخرة ،لأنهم كانوا يريدون به الدنيا فقط ، وقد نالوا حظوظهم منها حسب ما شاء الله عز وجل لمن أراد منهم دون أن يبخسوا  شيئا كما جاء في قول تعالى أيضا : (( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )) .فليس بعد هذا الذي ذكره الله عز وجل أن يجادل مجادل في أعمال من عملوا للدنيا فقط   ولكن يريدون لها جزاء أو مقابلا في الآخرة  التي لا يؤمنون بها أصلا  بله  يؤمنون بجزائها ؟

وأصحاب هذا الجدل يزعمون أن ما يحظى به من  يعملون للدنيا فقط  دون قناعة بوجود الآخرة من عيش خفض أو بحبوحة عيش هو دليل على رضا الخالق عنهم، علما بأن هؤلاء  منهم من ينكرون وجوده  أصلا، ومنهم من يعتبرونه موجودا لكنهم يعطلون إرادته تعالى عما يصفون علوا كبيرا ، ومنهم من لا رأي لهم في وجوده أو عدمه ،لأنهم يقصرون همهم على خوض غمار الحياة  الدنيا مع إنكار طبيعتها الاختبارية  وإنكار الطبيعة الجزائية للآخرة . ومقابل هذا الرضا المزعوم يزعمون أن ما يصيب المؤمنين بالله عز وجل وباليوم الآخر من ضيق في عيشهم هو دليل على سخط الخالق عليهم سخرية واستهزاء بهم كرد فعل على إيمانهم بأن المعتبر في سعي الدنيا هو أن يراد به الآخرة مع شرط الإيمان بالله عز وجل كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل .

والمطلوب من المؤمنين هو الثبات على ما جاء فيه دون تأثر بما يروج له المبطلون من تشكيك في الإيمان بالله عز وجل والإيمان بالآخرة وبطبيعتها الجزائية . وهو ثبات  يواجهون به ما يصدر عن أولئك المبطلين من تشكيك فيما يوجب التصديق به من وحي الله تعالى وهو الحق ، بينما يقوم تشكيكهم على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا .

اللهم إنا نعوذ بك مما يقوله  أولئك المبطلون ، ونعوذ بك من سعي لا يراد به الآخرة ،ونعود بك من سعي في الدنيا بلا إيمان بما أمرت الإيمان به . اللهم خلص سعينا في الدنيا من كل شائبة تشوبه فتفقده أجر وجزاء الآخرة .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 907