دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 5

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

تحديد جبهة العدو الرئيسي ،

وتحييد بقية الجبهات الأخرى( 5 )

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد كانت واحدة من أهم ملامح النبوغ القيادي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، هي في تحديد جبهة العدو الرئيسي المحارب ، وهي جبهة قريش ومن تحالف معها أو ناصرها من قبائل العرب ، وإقفال أو تحييد بقية الجبهات الأخرى ، الأقل أهمية ، والأخف خطورة ، بالنسبة للظرف الذي كان يعيشه ، والمرحلة التي يمر بها .

ولقد طبق هذه الخطة الحكيمة من خلال الإجراءات التالية :

أ. تحييد اليهود في المدينة المنوّرة :

لم تكن للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، غداة هجرته إلى المدينة المنورة ، أية مصلحة في إثارة اليهود  أو تأليبهم على دولته الوليدة فيها ، بل على العكس تماماً  فلقد كانت المصلحة في أن يهادنهم ، ويسالمهم ، ويتعاون معهم أيضاً .!

ولذلك فقد بادر فور وصوله ، إلى توقيع مذكّرة تفاهم ، وحسن جوار، وتعاون معهم  على أن يحتفظوا بعقيدتهم إن شاؤوا ، وتكون لهم كامل حقوق المواطَنة ، بشرط أن لا يعتدوا على المسلمين ، ولا يظاهروا عليهم أحداً أبداً ، وأن يشاركوا المسلمين في الدفاع عن وطنهم ، وأن تكون الكلمة العليا في البلد ، لله ولرسوله .

ب. تحييد المشركين في المدينة المنوّرة كذلك :

وكذلك فعل مع من تبقى من أهل الشرك في المدينة ، وتعامل معهم كأفراد ، ولم يتعامل معهم كتجمّع ، وخصَّهم بمادة واحدة من مواد الدستور ، فقال :

((.. وأنه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن )).

وفي الوقت الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء اليهود والمشركين في المدينة ، وأخرجهم من طريقه ، ليتفرَّغ لعدوه الرئيسي ، قريش ومن تحالف معها ، إلا أنه لم يكن يغفل لحظة واحدة عن دسِّهم ، وكيدهم ، وتآمرهم ، لأنه كان يقدّر أن قلوبهم الحاقدة ، ونفوسهم المريضة والموتورة ، لا يمكن أن تدعه وشأنه  دون أن تتآمر عليه وعلى إخوانه ودعوته ، ولقد حدثتنا كتب السيرة عن محاولات عبد الله بن أُبَيّ بن سلول ، زعيم الشرك في المدينة لهذه المرحلة ، ثم زعيم النفاق فيما بعد ، المستميتة لإيقاع الفتنة بين  صفوف المجتمع المدني ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له بالمرصاد ، فقد روى أبو داوود عن إحدى هذه الفتن المبكرة التي أراد أن يوقع فيها بين المشركين والمسلمين ، من أبناء المدينة أنفسهم: ( فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، لقيهم ، فقال : لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم .!؟ فلما سمعوا ذلك من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، تفرَّقوا ..)

وهكذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ، قد أخمد فتنة الحرب الأهلية المقيتة ، بين الإخوان وأبناء الوطن الواحد ، بعد أن حرَّك فيهم مشاعر الوحدة الوطنيّة ، وضرب على أوتار البطولة والشجاعة والحميّة ، ثم تفرَّغ بكل طاقاته وإمكاناته ، للعدو الخارجي المتربِّص. 

ولما كرَّر اليهود مؤامرة الفرقة والشرذمة في المجتمع المدني ، ونقلوها إلى داخل الصف المسلم هذه المرَّة ، بما عهد عنهم من خبث وغدر ودهاء ، كانت عيون القائد الساهرة دوماً لهم بالمرصاد .!!

فقد روى ابن اسحاق : ( ومرَّ شاس بن قيس ( اليهودي ) ، وكان شيخاً قد عتا ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدَّثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام  بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية . فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة ( الأوس والخزرج) في هذه البلاد ، لا والله ، ما لنا إذا اجتمع ملؤهم فيها من قرار .! ثم أمر فتىً شابَّاً من يهود ، كان معه ، فقال : إعمد إليهم ، واجلس معهم ، ثم ذكِّرهم يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان يوم بُعاث ، يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج في الجاهلية ، قال ابن اسحاق : ففعل الفتى  …) وكادت تحدث الفتنة التي أرادها اليهودي الحاقد ، لولا عناية الله ، ثمّ عيون القائد الساهرة .

قال ابن اسحاق : فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال :

(( يا معشر المسلمين ، اللــــــهَ …اللــــــــه ..!!

أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع عنكم الجاهلية ، واستنقذكم من الكفر ، وألَّف بين قلوبكم .!؟))

فعرف القوم ، عندها ، أنها نزعة من الشيطان ، وكيدٌ من عدوِّهم ، فبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين ، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوِّ الله وعدوِّهم الحاقد .

ج. تحييد القبائل العربية المشركة من غير قريش  :

لقد كان من براعته القيادية صلى الله عليه وسلم ، ومن صميم فقه الواقع ، وترتيب الأولويات ، في بداية العهد المدني ، وبداية تشكيل الدولة الإسلامية ، أن يغلق كل جبهات القتال غير الضرورية ، وأن يُخرج من ساحة المعركة كل القوى التي ليس لها ضرر مباشر عليه.

ولذلك فقد بادر إلى موادعة ومسالمة الكثير من القبائل العربية المحيطة بمكة أو المدينة المنورة ، كقبائل :

خُزاعة ، وبني ضُمرة ، وبني مُدلج ، وغيرهم …

وكان يهدف من وراء هذه الخطة الحكيمة ، إلى تركيز جهده القتالي على عدوه الرئيسي في مكة ، وفرض العزلة عليه ، وتهديد تجارته ، التي هي شريان حياته ، وأن لا يشتت فكره وجهوده وإمكاناته.

وهذا هو عين ما يجب على أبناء الثورة السورية العظيمة فعله اليوم ، سواء شباب التنسيقيات في الداخل ، أو أطياف المعارضة السورية في الخارج ، أو المجاهدون الأبرار من قادة الألوية والكتائب ، مقتدين جميعاً برسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه...

فمعركة الثورة السورية العظيمة اليوم  ، ومن خلفها جميع أطياف الشعب السوري العظيم ، هي مع العصابة الأسدية الحاقدة ومن ساندها في ذبح شعبنا ، حصراً  ...

وليست مع طائفة أو مدينة أو حزب أو جيش أو حكومة ...!!!

ما لم تتلطخ أيديهم بدماء شعبنا وأمواله وأعراضه ...

فلا يجوز أبداً أن نشتت جهودنا اليوم ، ونفتح معارك جانبية ، إعلامية كانت أو سياسية أو عسكرية ، مع أشخاص أو هيئات أو طوائف أو أحزاب ، سورية ...

ما لم تكن جزءاً من العصابة الأسدية العائليّة الحاقدة ، وتعمل لمصلحتها ، وتدعم إجرامها ، وتطيل عمرها .

وأرجو أن يكون قرار الثوار الأحرار بعد سحق العصابة الأسديّة الفاجرة ، وتحرير شعبنا السوريّ العظيم من إجرامها ، كقرار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لأهله في مكّة يوم الفتح العظيم ، إذ قال : (ماذا تظنّون أنّي فاعلٌ بكم  .!؟)

قالوا : (أخٌ كريمٌ ، وابن أخِ كريم ) !

قال القائد الفاتح العظيم المنتصر، بكل حنان وقدوة وتواضع :

(اذهبوا ، فأنتم الطلقاء ) !!!