إن الأرض لا تقدّس أحدا

رقية القضاة

خرج سلمان الفارسي من المدائن أميرا ،وعاد إليها أميرا،وامتدت رحلته الطويلة المضنية ،مابي العزّ والجاه والنفوذ،ومابين العبودية المرهقة،ومن الشرك والضلال،إلى الهدى والرشاد،واجتمعت له الدنيا حرّا فعافها بحثا عن الحق والنور،وأتته الإمارة راغمة فازدرى بهرجها ومغرياتها ،فأي رجل انت يا سلمان الفارسي؟

  [سلمان الفارسي] قرّة عين والده الحاني، أحبه إلى درجة أنّه لم يكن يسمح له بمغادرة المنزل خوفا عليه من كل شيء وأي شيء،ولم يكن ذلك الولد كما لم يكن أبوه يتوقعان ان الأيام المقبلة،ستفرقهما فراق الأبد،ولكن الله يريد لذلك الإبن شيئا ،غير ما اراده أبوه ،في ليلة اضطرّ فيها الأب إلى إرسال ولده في مهمة خارج أسوار ضياعه وقصوره المترامية الاطراف، وتسوق سلمان قدماه إلى  كنيسة فيها قوم يصلّون،ويعجب الشاب بصلاتهم ويعود إلى أبيه ويخبره بما رأى، ويخشى الأب أن يفارق ولده دين المجوس ،وعبادة النّار المقدّسة فيقيدة في المنزل،

ويتمكن سلمان من كسر قيده،وينظر في كل اتجاه من القصر، فيرى المال الوفير، والظل الظليل ،والغنى الفاحش ،والتدليل المتناهي ،ولكنه  يسمع في قلبه صوتا اقوى من صوت الرفاهية ،ويحس في نفسه كراهية تامة لهذه القيود الحريرية ،التي يمثلها الجاه والسلطان والذهب ،ويصبو إلى حرّية الروح ،ومعرفة الحق ،والدين الحق، لقد حدثته نفسه كما حدّثه قلبه أن النار لم ولن تكون إلها ،وأي إله هذا الذي إذا لم توقد نوره بيدك فإنّه ينطفيء ويخبو ،وأ ي ربّ هذا الذي يهدر ويتطاير شرره في كل اتجاه ،وهكذا فرّ سلمان الفارسي الى الكنيسة ،وطلب من الكاهن فيها أن يدله على اصل ديانته، ويدلّه الكاهن على الشام ،ويرشده الى كاهن يقيم فيها ‘ ويلتحق  سلمان بأوّل قافلة راحلة باتجاه البلد الذي طارت إليه روحه،وهفا اليه قلبه ،ويصل وجهته التي طالما تمنى الوصول إليها ،ويتعرف على ذلك الراهب الذي ارتحل إليه وهو يظنه ورعا تقيا ندي القلب ،كتلك الترانيم التي سمعها ذات ليلة فجعلته يطوي القفار ،لأجل أن يكون من أهلها ،ولكن قدره يوقعه في يد من ليس بأهل للإتباع ،فالراهب الذي قصده كان مثل سوء لمن إئتمنه اتباعه على صدقاتهم وهباتهم، التي استولى عليها ومنعها ممن قدمت لأجلهم ،وسلمان يرى الظلم ولا يرضاه ،ولكن أنى له الإعتراض على رجل الرب الذي يقدسه أتباعه ويرونه مثالا للزهد والورع ،ويهلك الرجل بعد حين ويدل سلمان الناس على مكان أمواله التي ادّخرها خلسة من قومه ،فيغضبون اشدّ الغضب لتلك السنين التي أمضوها في خديعة من كاهنهم،فيأبون أن يدفنوه ويصلبونه ويرجمونه.ويحلّ محله راهب آخر  زاهد صالح عابد ،يحنو على سلمان ويقوم على أمر رعيته ،وتحضره الوفاة فيوصي سلمان باللّحاق براهب صالح في الموصل ،ويظل سلمان يرتحل في أصقاع الارض حتى يصل الى عمورية ،وهناك يوصيه الرّاهب الذي يخدمه بأن يرتحل إلى  بلاد العرب ،مبشرا إياه بقرب مبعث نبي من العرب في أرض العرب ،وان يثرب مهاجره،ويرتحل سلمان  قاصدا تلك البلاد التي تعطرها نسائم النبوة المنتظرة ،ويعدو عليه قطاع الطريق فيبيعونه لتاجر يهودي  ،يحمله إلى يثرب، فيغدو عبدا رقيقا بعد عز وإمارة وحرية ،ولكن روحه تأنس لنخيل يثرب ،وتألف فضاءها الرحيب ،وهو يرى فيها تلك الملامح التي حدّثه بها راهب عمورية الصالح،فيرجو ان يكون من اتباع ذلك النبي المنتظر

وتشغل قيود العبودية القسريّة سلمان عن متابعة احداث مكة ،ومبعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيها  حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنوّرة ،ويسمع سلمان بالنبأ الذي طالما انتظره ،ويتذكر تلك العلامة التي أخبره بها راهب عمورية،[نبي يأكل الهدية ولا ياكل الصدقة] فيأخذ شيئا من طعام كان عنده ويقصد  ذلك الرجل الذي تمنى رؤيته سنين طوال،ويدنو سلمان الأمير الأسير المسترقّ ،من النبي الذي بعث برسالة الحق والحرية ،ويقدم له الطعام الذي يحمله قائلا:بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ،وهذا شيء جمعته للصدقة ،ويعطي النبي صلى الله عليه وسلم الطعام لأصحابه ولا يتناول منه شيئا ،ويقول سلمان في نفسه هذه واحدة 

وتتجاذبه عاطفته لهذا الرجل وأمانيه في أن يكون هو النبي الذي يرجو ،فيمد له يده بطعام آخر قائلا:إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، وتكون العلامة الثانية للنبي الذي أخبره بها الراهب الصالح ،ويبقى خاتم النبوة بين كتفي الرسول فكيف سيراه سلمان ،ويقدم عليه مرة أخرى  ،وقد انصرف صلى الله عليه وسلم من جنازة لاحد أصحابه ويرى سلمان يحاول النظر الى موضع خاتم النبوة،فيلقي الرداء عن ظهره ،وتكون الثالثة وينكب سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ويبكي،ويقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصة البحث ،ورحلة الروح الظمأى للحق ،ويشهد ان لاإله الا الله وأن محمدا رسول الله

ويأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يكاتب سيده اليهودي من أجل حريته ،فيكاتبه على ثلاثمائة نخلة يحييها ،وأربعين اوقية من ذهب، والرسول الحاني المحب لأتباعه فقيرهم وغنيهم ،حرهم وعبدهم ،صغيرهم وكبيرهم ،ذكرهم وأنثاهم،لا تشغله عن سلمان وحالته شاغلة ،يأتيه سلمان بغصون النخل التي أمدها به إخوته مسلمو المدينة ،فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : [إذهب ياسلمان ففقر لها فإذا فرغت أكون أنااضعها بيدي] ويعطيه صلى الله عليه وسلم قطعة من الذهب لكي يدفعها لليهودي الذي يملكه ويبارك الله تعالى في فسائل النخل فتحيا جميعها ،وفي قطعة الذهب الصغيره ،فتزيد على الاربعين اوقية ،فيشتري سلمان بها حريته الغالية تلك التي فقدها بجور الجاهلية ،واستردها بعدل الاسلام 

ويحتجّ المسلمون في سلمان الفارسي ،فيرى الانصار انتسابه إليهم ويحب المهاجرون انتسابه اليهم ،ويحسم الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف قائلا:{سلمان منّا أهل البيت }في إشراقة نبوية لطيفة ،فسلمان نزع رداء الجاه العريض ،ورمى خلف ظهره أكداس المال ،وواسع الضياع  ،في رحلة تضحية قل نظيرها عن المعبود الحق والدين الحق، فاستحق الوسام الرفيع بالانتساب إلى بيت نبي الله صلى الله عليه وسلم

وسلمان فقيه عالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم،فلقد آخى بينه وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما،فزار سلمان أخاه فقرب لهما الطعام ،فقال ابو الدرداء إني صائم،فقال سلمان ما انا بآكل حتى تأكل فاكل،ولماكان الليل قام ابو الدرداء ليصلي فقال له سلمان نم،فنام،فلما كان من آخر الليل قال له سلمان :قم الآن ،فقاما فصليا،وقال له:إن لنفسك عليك حقا،ولربك عليك حقا،وإن لضيفك عليك حقا،وإن لأهلك عليك حقّا،فأعط لكل ذي حق حقه،وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال:صدق سلمان وفي روايةأن ابا الدرداء كان يصوم يوم الجمعة ويقوم ليلتها،فامر سلمان أبا الدرداء أن يفطر يوم الجمعة،وذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:عويمر! سلمان اعلم منك،عويمر!سلمان اعلم منك،عويمر!سلمان أعلم منك،لا تخصن ليلة الجمعةبقيام من بين الليالي ولا تخصن يوم الجمعة بصيام من بين الايام ]

ويعود سلمان مع جيش الفتوح الاسلامية الى المدائن،وقد عينه الخليفة الفاروق أميرا عليها،ولم يبحث سلمان عن القصورالتي كانتله ذات يوم،ولم يستولي لنفسه على ضياع كانت ذات يوم ملاعب صباه،وملك أبيه،ولم ينتظر من الغمارة الجديدة أن تدر عليه لبنا وعسلا ،بل كلت يداه وهو امير المدائن ،من عمل الخوص ،كي يحصل رزقه ،ولم تبرر له نفسه الزكية ،وقد ارتقى بها الإسلام إلى أعلى درجات النقاء، ان يمد يده غلى مال كان له ذات يوم ،فقد استعلى على الدنيا وهو شاب غرير،يفرح قلبه لزهرتها وتستخفه مباهجها ،وحلّق بعيدا عن قيودها بأجنحة الحريةالكريمة والعقيدة السليمة ،والفهم الدقيق لاحكام الشرع ،فصار ينبوع حكمة ومصدر هدي للامة إلى يوم الدين

ويشتاق إليه أخوه أبو الدرداء وهو في بلاد الشام وسلمان في العراق،فيرسل الى سلمان قائلا:هلم إلى الارض المقدّسة،فيكتب إليه سلمان قائلا :{إن الأرض لاتقدّس أحدا وإنما يقدّس الانسان عمله }

وتحضره الوفاة وقد عمّر طويلا في طاعة وورع،ويجتمع إليه إخوانه الذين أحبهم في الله ويبكي سلمان ،فيقول له اصحابه ما يبكيك فيقول سلمان الورع كعهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال :{ليكن بلاغ احدكم كزاد الراكب }وينظر الاصحاب حولهم فلا يرون من حطام الدنيا شيئا الا مايقوّم بعشرين درهما!!!،متاع بعشرين درهم يرعبك أن تلقى الله بها ياسلمان ؟،وأنت أمير المدائن!!،عشرين درهما تبكيك عند موتك مخافة ان تحاسب عنها ؟،  ألا فلتفخري أيتها الارض انّ قدما سلمان الورع البارّ الطاهر الخاشع ،قد مرّت يوما فوق ترابك ،ولتبقي أيتها الامّة شامخة عليّة ظاهرة على عدوك ،مادامت فيك سيرة هؤلاء الاطهارقدوة ومنارا

{اللهمّ صلي وسلم على نبيك وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين }