( وصلّ عليهم إن صلواتك سكنا لهم )

من المعلوم أن الله عز وجل بقدر ما رهّب الخلق  من عذابه ، فإنه سبحانه وتعالى رغّبهم في رحمته . ومن رحمته سبحانه وتعالى المغفرة ، وهي تجاوزه  جل وعلا عن الخلق أخطاءهم ، وقد جعل بابها مشرعا لا يغلق في وجه أحد إلا ساعة الغرغرة.

 ومن رحمته أيضا أنه يعث رسوله صلى الله عليه وسلم  رحمة للعالمين ، وهي رحمة واسعة لها عدة تجليات ، منها أنه عليه الصلاة والسلام يصلّي على التائبين المستغفرين بعد نكوبهم عن الصراط المستقيم أي يدعو لهم بالمغفرة والرحمة ، وهذا ليس خاصا بمن عاصروه بل هو عام يشمل العالمين إلى قيام الساعة .

ولقد بشّر الله عز وجل العالمين بهذه الرحمة التي أجراها على يد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، فجعل لها سبب نزول في زمانه، لكنه جعل حكمها عاما بين الناس إلى يوم الدين ، ويتعلق الأمر بقوله تعالى : (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلواتك سكنا لهم والله سميع عليم )) .

أما سبب نزول هذه الآية الكريمة، فهو كما جاء في كتب التفسير تخلف بعضهم عن غزوة تبوك ثم ندمهم على ذلك واعتذارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع عرض أموالهم عليه تكفيرا لذنبهم إلا أنه لم يقبلها منهم حتى أنزل الله تعالى أمره له عليه الصلاة والسلام كي يقبلها لتكون طهرا لهم من ذنبهم ، وزكاة لأنفسهم ، وزاد عن ذلك أمره  له بالصلاة عليهم وهي دعاء لهم .

ومن رحمة الله عز وجل أن جعل حكم هذه الآية الكريمة تشمل كل المذنبين في كل زمان ومكان إلى يوم الدين  حين يتوبون ويستغفرون ، وينفقون من أموالهم لتكون طهرا لهم من ذنوبهم ، وزكاة لأنفسهم ، وهو ما يستوجب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كما كان الشأن بالنسبة لمن نزلت فيهم .

 وهذا الأمر يجب ألا يغفل عليه المسلمون ممن يقعون في المعاصي المستوجبة للتوبة والاستغفار لأن من شروط التوبة  تدارك ما فات  من صالح الأعمال . ومعلوم أن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا قد تخلّفوا عن الجهاد ، ولم يجاهدوا بأموالهم ، لهذا حاولوا تدارك ذلك بعرض أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يقبلها منهم إلا بعد  أن أمره الله عز وجل  بقبولها .

ولقد جاء في بعض كتب التفسير أن قوله تعالى : (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )) فيه دلالة على مقام التخلية عن السيئات ، ومقام التزكية  بالحسنات والفضائل ،علما بأن التخلية تسبق التحلية لهذا تقدم قوله تعالى: (( تطهرهم )) على قوله سبحانه : (( تزكيهم )) . ومعلوم أن التزكية وهي نماء لا يكون إلا بعد طهر ونقاء .

ومن التزكية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل من يتحلل من سيئاته بالصدقة ، وهو دعاؤه عليه الصلاة والسلام  له . ولقد كان إذا جاءه أحد بصدقة قال : " اللهم صلّ على آل فلان " . ومعلوم أن الله عز وجل جعل في دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم سكنا لمن يدعو لهم . والسكن طمأنينة النفس  وراحتها واستقرارها بعد توتر وقلق وخوف ، وكل ذلك أمل بعد يأس ، لهذا ينشد المذنبون هذه الطمأنينة من خلال الإنفاق الذي يقصدون به التحلل من ذنوبهم وسيئاتهم ، ولذلك شرع الله تعالى عبادة الزكاة والصدقة . ولا يخلو متصدق بعد ذنب من الشعور بهذه الطمأنينة ، وقد يغفل عن مصدرها، وهو صلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جعلها رحمة للعالمين إلى يوم الدين .

وقد يمر الناس بقول الله تعالى : (( وصلّ عليهم إن صلواتك سكنا لهم )) ويعتقدون أنها خاصة بالمتخلفين عنه في غزوة تبوك ، والحقيقة أن حكمها لا يقتصر عليهم  دون غيرهم بل يشمل كل المذنبين إلى يوم الدين  ، وهو ما يؤكده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " .

وعليه يلزم كل من يقع في الخطاياـ وكل ابن آدم خطاء ـ أن يبادر بالتوبة شرط ألا تكون توبة باللسان فقط بل لا بد لها من  إقلاع وندم وعزم ، وصدقة تطفىء الخطايا ، وحينئذ يفوز بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجعل فيها الله عز وجل سكنا له ، ويطمئن بذلك قلبه ، ويخرج من حال اليأس والخوف إلى حال الأمل العريض في رحمة الله عز وجل، والأمن من الخوف بسبب ما كان منه من إساءة . ولقد ذيل الله تعالى هذه الآية الكريمة بقوله : (( والله سميع عليم ))  يسمع صلاة رسوله صلى الله عليه وسلم على التائبين المتصدقين ، ويعلمها ، ويستجيب لها .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو مواصلة لما مر من أحاديث متعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة مولده الشريف ، وفيه  تذكير وتنبيه لعموم المسلمين وللمذنبين على وجه الخصوص كي ينشدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ليحصلوا على منحة طمأنينة القلوب ، ويكون ذلك بحذوهم حذو من تخلفوا عنه في غزوة تبوك بحيث يقدمون بين يدي خطاياهم صدقات تطهرهم من ذنوبهم ، وتكون تزكية لنفوسهم ، ويفضي بهم ذلك إلى منحة هي صلاته صلى الله عليه وسلم عليهم .

ومما يجب على المسلمين اليقين به يقينا لا يشوبه تردد أو شك أنهم كلما قصدوا بصدقاتهم التخلص من خطاياهم حصل لهم الطهر والتزكية وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم  عليهم ، وانتهى بهم الأمر إلى طمأنينة القلوب وسكينتها .

اللهم إنا نسألك منحتك التي أجريتها على يد رسولك عليه الصلاة والسلام ، ووفقنا اللهم عند كل زلة تصدرعنا إلى التحلل منها بالصدقات ، واجعلها لنا طهرا ، وتزكية ، وبلغنا به الفوز بصلاة نبيك الكريم علينا .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 957