( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا )

من المعلوم أن الله عز وجل اصطفى رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين لتبليغ رسالاته إلى الناس ، وكان الاصطفاء وفق إرادته سبحانه وتعالى ، ووفق ما تفضل به على المرسلين من صفات  الكمال التي جعلتهم خير خلقه ، وتفضل عليهم بعصمة تعصمهم مما لا يعصم منه باقي الخلق .

ومما تفضل به الله عز وجل على رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام الجرأة والشجاعة في تبليغ ما يأمرهم بتبليغه للناس بحيث لا يسايرون من بعثوا فيهم في أهوائهم ، ولا يخفون شيئا مما أمروا بتبليغه بالرغم مما يكون ذلك مخالفا للأهواء التي تميل بالخلق عن الصراط المستقيم الذي أراده الله تعالى لهم .

ولقد سجلت الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما وصف به الله عز وجل رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام  من صفات الكمال  وكلها متوفرة في خاتمهم صلى الله عليه وسلم ، ومن ضمنها تبليغ رسالاته دون خشية أحد إلا الله عز وجل، وكفى به حسيبا ، ويتجلى هذا في قوله عز من قائل : (( الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا)).

ومعلوم أن تبليغ الرسل الكرام  عليهم الصلاة والسلام عن الله عز وجل كان وفق إرادته وبأمر منه ، و بالطريقة وبالكيفية التي يحددها لهم ، ولم يكن في تبليغهم تقصير أو تبديل أو تغيير . ومعلوم أيضا أن الله عز وجل كان يبعث رسله الكرام في أقوامهم حين يتنكبون صراطه المستقيم ، وحين تفسد فطرتهم ، وهذا ما كان يعرض المرسلين لأذى أقوامهم حين يبلغون لهم  عن رب العزة جل جلاله ما لا يوافق أهواءهم مما كان يفسد فطرتهم ، ويزيغ بهم عن جادة الحق . وبالرغم من خطورة مهمة التبليغ عن الله عز وجل ، فإن الله عز وجل قد اصطفى رسله الكرام للقيام بها بأن نزع من قلوبهم خشية الخلق حتى يتم التبليغ عنه على أكمل وجه .

وإذا كان الرسل السابقون عليهم الصلاة والسلام  قد بلغوا عن ربهم جل جلاله دون خشية أحد حتى أن منهم من قتل بسبب التبليغ ، فإن خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام المبعوث للعالمين إلى قيام الساعة  كان أكثر عرضة للأذى والمخاطر بسبب مهمته الجسيمة  في حياته وبعد مماته، ولكنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ولم يخش في ذلك إلا الله عز وجل ، ولم يبال بمن سخط أو جحد أو أعرض ، ولم يخش ذا بطش ولا ذا سلطان  بل راسل عظماء زمانه وقد دعاهم إلى الإسلام وهم على ملل مختلفة من الكفر والشرك  والضلال قائلا لكل واحد منهم " أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ".

ولقد بلغ عليه الصلاة والسلام ما أمره به ربه سبحانه وتعالى لكل الأصناف البشرية التي وجدت في زمانه من كفار ومشركين ومنافقين وأهل كتاب من يهود ونصارى، ولم يخش أحدا منهم في التبليغ كما أمره ربه سبحانه وتعالى ، وكان يقرأ عليهم ما ينزل عليه في شأنهم ولا يخفي منه شيئا بالرغم مما كان فيه مما يثير حفيظتهم عليه، وهو لا يهتم بمواقفهم أو لومهم أو تهديدهم مستعصما بالله عز وجل وهو مستيقن بأنه سبحانه وتعالى هو الرقيب الوحيد الذي يجب أن يخشى.

ولم تكن أساليب من كانوا يعاصرونه من المنحرفين عن الصراط المستقيم تقتصر على تهديده  لصرفه عن تبليغ ما أمره الله عز وجل بتبليغه بل كانوا أحيانا يساومونه لصرفه عن ذلك إلا أنه سد في وجوههم جميعا باب المساومة والإغراء بها  بقوله عليه الصلاة والسلام لما أبلغه عمه بمساومتهم : "  يا عمّ  والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهر الله ، أو أهلك فيه ما تركته " وفي رواية أخرى : " ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة " يعني الشمس .

 حديث هذه الجمعة يندرج ضمن عرض سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بمناسبة مولده الشريف ، ويتعلق الأمر في هذا الحديث بجرأته وشجاعته صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة ربه عز وجل .  و الدافع إلى تناول موضوع شجاعته وجرأته في التبليغ هو أن يكون إسوة لمن ورثوا عنه العلم من العلماء  في هذا الزمان خصوصا أولئك الذين تخونهم اليوم الجرأة والشجاعة في السير على نهجه صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما يجب تبليغه مما يقتضيه الظرف، وذلك  إما خشية  من يخشون من الناس  أو استسلاما لمساومتهم لهم كي يسكتوا عن التبليغ .

ومعلوم أنه لا أحد ألزم هؤلاء العلماء بمهمة وراثة النبي صلى الله عليه وسلم  في التبليغ عنه كما بلغ هو عن ربه عز وجل بل هم من اختاروا ذلك طواعية ليكونوا ورثته ، لهذا يلزمهم أن يتصفوا بشجاعته وجرأته في التبليغ ، وألا يخشوا في ذلك أحدا إلا الله عز وجل . وما من وارث من ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم انحرف عن التبليغ عنه  كما يجب خوفا من  أحد إلا وعليه أن يستحضر قول الله تعالى : (( وكفى بالله حسيبا )) وهو ما  يجعله لا يبالي بمحاسبة أي مهما كان . ومعلوم أنه من ترك  من العلماء التبليغ على الوجه المطلوب  بالانصراف عما جاء في كتاب الله عز وجل مما  يلزم تبليغه ،ويكون ذلك متعلقا بأصناف من الناس ذمهم سبحانه وتعالى، وحذر منهم ، ويفعل ذلك مخافة أذاهم أو طمعا فيما عندهم إلا  كان ناقضا لعهد الله عز وجل، ولعهد رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومقصرا في واجب التبليغ عنهما بالشجاعة والجرأة اللازمتين دون خشية أحد مهما كان .

ومن التقاعس في تبليغ ما أمر الله عز وجل بتبليغه للناس أن ينصرف أهل العلم إلى أحاديث ليس فيها درء لبعض المفاسد الصارخة المسكوت عنها أو يتجنبوا التعرض لها  و في المقابل الانشغال عن دفعها بغيرها من الأمور التافهة وهم يعتقدون أنهم يؤدون مهمة التبليغ على الوجه الصحيح .

اللهم تدارك علماء الأمة  بلطفك وعنايتك ليبلغوا عنك كما بلغ عنك رسولك عليه الصلاة والسلام بجرأة وشجاعة  ، واجعلهم لا يخشونك إلا أنت سبحانك ، وقيض لأمة الإسلام الشجعان منهم للأخذ بيدها في هذا الظرف بالذات .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسوم: العدد 959