(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون )

من المعلوم أنه يتكرر في كتاب الله عز وجل ذكر أوصاف عباده المؤمنين . وذكر أوصافهم يأتي في سياقات مختلفة ، وبأساليب مختلفة أيضا منها أسلوب القصر أو الحصر . ومن ذلك قوله تعالى في فاتحة سورة الأنفال : (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون )) .أما سبب نزول هذه الآية الكريمة ،فهو ما كان بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلاف بخصوص قسمة الأنفال أو الغنائم ، وقد تولى عليه الصلاة والسلام قسمها بينهم بوحي من الله عز وجل ، وحتى لا يبقى بينهم خلاف تترتب عنه مشاعر لا يحسن بهم أن تحصل لهم، أمرهم  الله تعالى قبل هذه الآية بأمره فقال : (( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )) ، وأردف ذلك ببيان كمال الإيمان ،كأنه سبحانه وتعالى يجيب عن سؤال  قد خطر لهم ، وهو كيف يكونون مؤمنين بعد الذي وقع بينهم من خلاف وفساد ذات البين ، فسرد عليهم في أسلوب قصر أو حصر شروط كمال الإيمان، وهي وجل القلوب عند ذكر الله تعالى تعظيما  لذاته  وأسمائه الحسنى   ،وصفاته المثلى  ، وأفعاله الدالة على قوته وشدة عذابه  وسعة رحمته ، وذكر أوامره ونواهيه . والوجل شدة الخوف الذي يصل درجة الفزع ، وتكون له آثار بادية على الواجل من ارتعاد فرائصه  أو انسكاب دمعه أو اقشعرار جلده ، وقد يصل الأمر به  الأمر إلى حد الوقوع في الإغماء حسب درجة وجله . وقد لا تبدو عليه هذه الآثار بل يحاول إخفاءها وهو في أعلى درجة الوجل مخافة الرياء إذا كان بين الناس، لأنه يكفيه علم الله تعالى بحاله . وأردف الله تعالى بعد شرط حصول الوجل عند ذكر الله تعالى شرط سماع كلامه الكريم يتلى ، وهو السر وراء زيادة الإيمان لما في هذا الكلام من آيات محفزات على زيادته سواء كانت آيات الرحمة والنعمة أو آيات العذاب أو بتعبير آخر سواء كانت مبشرة أو كانت منذرة ، ذلك أن آيات الرجاء تزيد من رصيد الإيمان ، كما أن آيات الخوف أو الوجل تزيد منه أيضا .

ومعلوم أن الإيمان يحصل بدءا بيقين يستيقنه الإنسان، وهو يقين مشروط بأركان ستة، وهي إيمان بالله عز وجل ، وبملائكته ، وبكتبه ، وبرسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره . واليقين هو ما لا يخامر صاحبه أدنى شك أو ريب . وكل من دخل دائرة الإيمان بأركانه الستة يحصل على رصيد منه، فيكون قابلا للزيادة لكنه لا ينقص كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى خلافا للعبارة الشائعة الإيمان يزيد وينقص ،لأنه إذا جاز فيه النقصان كان ذلك نقصا في اليقين ، لهذا قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه إن المقصود بزيادة الإيمان هو كماله .

ولقد جمع الله تعالى في كمال إيمان المؤمنين وجلهم إذا ذكروه ، وزيادة إيمانهم زيادة كمال إغراء لهم بنشدان هذه الزيادة أو هذا الكمال ، وزاد على ذلك شرط آخر ، وهو التوكل عليه ، والتوكل من صميم الإيمان أو اليقين ، ذلك أن من استيقن دون أدنى  شك أو ريب أن له خالقا يرعاه اطمأن برعاته ، وعول عليها بعد الآخذ بما أمره بالأخذ به من أسباب دون أن يتخذها أربابا ، بل يكون يقينه في مسببها سبحانه وتعالى فحسب  . ومن التوكل أن يستيقن المتوكل أن ما صرفه الله تعالى عنه مما كان يرومه ولم يبلغه ،سيعوضه عنه لا محالة بما هو خير له ، تماما كما حصل مع من تخلوا عن الأنفال طاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم  فعوضهم سبحانه وتعالى عما تخلوا عنه خيرا منه ، ولأجر الآخرة خير وأبقى . ويكفي أن يستيقن الإنسان يقينا راسخا أن جزاء الآخرة هو خير ليسلو كل ما تمناه في الدنيا ولم يدركه .

ومعلوم أن حكم هذه الآية الكريمة لا ينحصر فيمن نزلت فيهم بل هو عام يشمل العالمين قاطبة إلى قيام الساعة، ذلك أن كل من رام كمال الإيمان وجب عليه أن يلتزم بالشروط التي اشترطها الله عز وجل، وهي وجل عند ذكره سبحانه وتعالى ، والترقي في مراقي كمال الإيمان إذا تليت آياته ، وقد سميت الآيات كذلك لأنها أدلة، وحجج، وبراهين سيقت للإقناع من أجل تحقيق اليقين الراسخ بها ، مع التوكل عليه جل في علاه ، وكل ذلك ترجمة عملية أو إجرائية للإيمان به جل شأنه .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو لفت انتباه المؤمنين إلى كيفية الانتفاع بالقرآن الكريم في شهر رمضان الأبرك حيث يكون الظرف جد مناسب لحصول ذلك إذ تسمو النفوس في صومها عن الشهوات وتصفو ، وترقى في مدارج عالم روحي يجعلها مؤهلة لتعيش تجربة الوجل عند ذكر الله تعالى في هذا الظرف أكثر من غيره ، وإن كان في الحقيقة  مطلوبا في كل الظروف والأحوال، ولترقى بسماع كلام الله عز وجل في مراقي كمال إيمانها ، ويزداد توكلها على خالقها سبحانه وتعالى .ولا شك أن صلاة القيام ،وهي فرصة سماع تلاوة القرآن الكريم لهي فرصة نشدان كمال الإيمان  بامتياز ، وهي في نفس الوقت فرصة التحقق من الوجل عند ذكر الله عز وجل لأن القرآن الكريم كله عبارة عن ذكره سبحانه وتعالى إذ لا يمر بالمنصت له آية إلا وفيها ذكر لذاته المقدسة سبحانه ، ولأسمائه الحسنى ، ولصفاته المثلى ، ولأفعاله ، وإنعامه ، فضلا عن قوته وشدته ، ورحمته ، وأوامره ونواهيه ، وبشاراته ، وإنذاراته ... إلى غير ذلك مما أودع سبحانه وتعالى من أسرار .

ويمكن لمن تردد على بيوت الله عز وجل لسماع كلامه في صلاة القيام والتي جعلها سبحانه ليلا لأنه بسكونه هو الظرف المناسب لحصول حسن الانصات والتدبر أن يزن مدى ما تحقق لإيمانه من كمال على قدر ما حصل معه من حالات الوجل بالمؤشرات الدالة عليه ، ومدى ما أثرت في نفسه  الآيات المتلوة عليه كل ليلة ، ومدى ما ترسخت عنده فكرة التوكل على الله عز وجل حق التوكل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم  كما روى عنه ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " . وهو حديث علمنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون منا  التوكل الصحيح على خالقنا سبحانه وتعالى ،وهو الرزاق ذو القوة المتين حين لفت أنظارنا إلى كيفية إطعام الله عز وجل الطير بتيسير الأسباب إلى حصوله على طعامه وقد انطلق غدوة جائعا ثم عاد طاعما رواحا. وحسب من تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا  أن يطمئن كل الاطمئنان بالتوكل على خالقه سبحانه وتعالى في كل أحواله ، ويعلم أن ما لم يتحقق مما تمناه سيعوضه ربه عز وجل عنه  خيرا منه .

وأخيرا نقول من قاس نفسه على ما اشترط الله تعالى في كمال الإيمان ،فليحمد ربه على ذلك ، وليمضي في نفس النهج بعد انصراف أيام رمضان المعدودات ، ومن فاته شيء من ذلك، فليغتنم العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل ، وقد أخفى فيها الله تعالى ليلة هي خير من ألف شهر ليرقى بإيمانه أعلى المراقي  لبلوغ كماله .

اللهم يا خالقنا الكريم، ويا مالك زمام أمورنا ، ويا متحكما في قلوبنا نسألك الوجل إذا ذكرناك ، ونسألك مزيد إيمان إذا سمعنا آياتك تتلى علينا أو تلوناها ، ونسألك حسن التوكل عليك ، ونسألك جائزة الصيام والقيام مغفرة  وعفوا منك ، وعتقا من النار ، يا من يسمع ويرى ، ويا قريب، ويا مجيب من دعاه ، ومن اضطر إلى دعائه .واختم اللهم  لنا بخيرك ونعمائك مع ختام شهر الصيام  ولجعله لنا دائما في سائر الأيام . اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان ، و في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، ولا تجعل لعدوهم عليهم سبيلا إنجازا لوعدك الناجز سبحانك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 978