( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه وسعى في خرابها )

من المعلوم أن الله جل جلاله ، خالق كل شيء ، ومالك الملك ،اقتضت إرادته رحمة بعباده المؤمنين أن يخصهم بيوت  له في الأرض يعمرونها لمناجاته ، وهو أقرب ما يكون منهم وهم سجود بين يديه . ولقد أحاط جل شأنه بيوته برعايته وعنايته ،  وجعلها خير بقاع الأرض، وأضفى عليها قدسية  ،  جعل لها حرمة ،وكتب الأمن لمن ارتادها عابدا مطيعا  له ، وتوعد من هجرها استكبارا عن عبادته  وطاعته بأشد العذاب.

ومع أن اليابسة كلها مساجد يسجد فيها لرب العزة تقدس اسمه، وعز سلطانه  إلا أن بقاعا منها  تكون معلومة تسمى مساجد أو بيوت الله ، وهي التي يذكر فيها اسمه ، ويسبح له فيها بالغدو والآصال ، ويناجى  فيها ، ويسأل ، ويستعطف ، ويستغفر... إلى غير ما يؤتى فيها من أعمال وأقوال ، وما يكون فيها من أحوال المؤمنين  .

ولقد خص الله تعالى عباد الله المؤمنين المعلقة قلوبهم  ببيوته بأجر عظيم يوم القيامة حين يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله  ، كما جعل أجر انتظارهم  الصلوات فيها كأجر الرباط في سبيله ، ومقابل تلك الأجور توعد جل شأنه بأشد وأقسى العذاب المستبيحين حرمتها وقدسيتها  بمنع ذكره سبحانه وتعالى فيها ،والسعي في خرابها معتبرا ذلك أقبح وأشنع ظلم ،علما بأن  هذا الأخير هواعتداء يكون بوضع الأمور أو الأشياء في غير الأوضاع التي أرادها  لها الله تعالى .

و معلوم أن الوضع الذي ارتضاه الله عز وجل لبيوته ،هو أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ومن الظلم أن يغير هذا الوضع ، فيمنع فيها ذكره  سبحانه وتعالى ، ويسعى في خرابها مصداقا لقوله تعالى :

(( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )) .

ولقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة هو منع النصارى بعض المؤمنين ممن كان قبلنا  من ذكر الله عز وجل في بيت المقدس، وسعيهم في خرابه بتحريض الطاغية "بختنصر" على تدميره، وقال غيرهم أن السبب هو منع كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة بالمسجد الحرام .

ومهما يكن سبب  النزول، فأن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها، ذلك أن منع ذكر الله عز في بيوته ،والسعي في خرابها هو دأب الظالمين في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة . ولقد سجل التاريخ ألوانا من هذا الظلم الشنيع  في الماضي ، ولا زال يسجله إلى يومنا هذا ، وسيسجله على الدوام إلى غاية حلول نهاية العالم ، وانحشار الخلق بين يدي الله عز وجل  .

ومعلوم أن منع  ذكر الله عز وجل في المساجد، والسعي في خرابها يأخذان أشكالا وأساليب متعددة ،ومتنوعة حسب العصور والبيئات وإن كانت تلك الأشكال والأساليب تنتهي كلها إلى نتيجة واحدة هي فعل قبيح شنيع  يلحق الضرر  ببيوت الله عز وجل وبعمّارها . ومن تلك الأشكال والأساليب على سبيل التمثيل لا الحصر  أن يمنع أصلا بناء المساجد أو تهدم وتخرب بعد بنائها أو تغلق أبوابها ويعطل دورها ، وهو تخريب مادي لها ، فضلا عن وجود أشكال وأساليب أخرى من التخريب المعنوي لها يتجلى إما في منع روادها من ارتيادها لذكر الله عز وجل فيها أو منع من يدعونهم إلى ذلك من علماء ودعاة وخطباء.

وإذا كان أعداء دين الله عز وجل  على اختلاف مللهم ونحلهم  يتعمدون منع ذكر الله عز وجل في بيوته  إما بمنع بنائها أصلا  أو هدمها بعد بنائها  أو إغلاقها أو محاصرتها  ، فإن الذي يؤسف له شديد الأسف هو أن يحاكيهم في ذلك من يدّعون الانتساب إلى الإسلام ، وأفعالهم  ومواقفهم تكذبهم ، وهم أشد خطرا على الإسلام من أعدائه وهم يموهون على أفعالهم الشنيعة بادعاء حماية وصيانة بيوت الله وهم  في الواقع إنما يخربونها تخريبا ، ذلك أن من يمنع عالما أو داعية أو خطيبا من القيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل في بيوته أشد خطرا عليها ممن يعمل في المعول أو يمنع بناءها أو يغلق أبوابها أو يحاصرها .

ومن المؤسف يسكت بعض أهل العلم على تمادي مانعي العلماء والدعاة والخطباء الصادقين المخلصين  من القيام بواجبهم لمجرد أنهم لا يجارونهم في أهواءهم ، ولأنهم يدعون رواد المساجد إلى ما  أمر به  الله عز وجل  من تدين صحيح  ، ويحذرونهم مما يحاك من مؤامرات ضد دينه وكتابه  مستحضرين رقابته سبحانه وتعالى  قبل رقابة غيره لا يخشون في ذلك أحدا ، ورافضين أن تكون بيوته أماكن لتسويق الأهواء والبدع والضلالات ، أو تعطيل شرعه  ، أو التمييز بين آيات كتابه الكريم باعتماد بعضها وتعطيل بعضها الآخر لكونها لا ترضي أهواء أعداء دينه الحاقدين الناقمين عليه والمتربصين به  بأهله الشر .

ومعلوم أن كل من سكت  من أهل العلم ـ وهو قادر على ألا يسكت ـ  على ظلم بيوت الله عز وجل بمنع ذكره فيها أو بالسعي في خرابها مهما كانت طبيعة هذا الخراب ، يكون  مع الظالمين في ظلمهم بسكوته  الشيطاني .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بالظلم الواقع على بيوت الله عز وجل في شتى أصقاع المعمور من ميانمار إلى الصين إلى بعض الدول الغربية إلى  فلسطين المحتلة  إلى بعض أقطار الإسلام مع شديد الأسف والحسرة والحزن ، ولا فرق بين ما يقع في البلدان غير المسلمة من ظلم في حق بيوت الله عز وجل ،وفي حق روادها من اضطهاد ،واعتداء ،وقتل، وأسر، وحصار ... وبين ما يقع في بعض البلاد الإسلامية من منع للعلماء والدعاة والخطباء من القيام بواجبهم سوى أساليب وأشكال  الظلم لأن النتيجة هنا وهناك واحدة في نهاية المطاف .

ومعلوم أن ما توعد به الله عز وجل مانعي ذكره في بيوته وسعيهم في خرابها مهما كان  شكل أو نوع أو أسلوب المنع والتخريب لا يختلف سواء كانت المساجد في بلاد الكفرأو في بلاد  الإسلام ، وهو وعيد شديد قوامه خوف يسلطه سبحانه وتعالى على مستهدفي بيوته بالسوء  في الحياة الدنيا  ، وعذاب عظيم في الآخرة.

ومن واجب النصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أن ينبه الجميع إلى ما توعد به الله عز وجل من يمنعون بيوته أن يذكر فيها اسمه أو يسعون في خرابها مهما كان نوع المنع أو نوع الخراب ، وليحذر المؤمنون من أن يستدرجوا إلى الوقوع فيما يكون سببا في مصير ما حذر منه الموالى جل شأنه سواء كان ذلك بفعل أو بقول يصدرعنهم وهم لا يشعرون ، ولا يقدرون خطورته على بيوت الله عز وجل ، وعليهم نصرتها، ونصرة روادها كل على قدروسعه  واستطاعته ولو بأضعف الإيمان.

اللهم اجعلنا ممن جعلت  قلوبهم معلقة ببيوتك ، وظلّلنا بظلك يوم لا ظل إلا ظلك ، واجعلنا ممن حبّبت إليهم الرباط فيها، وانتظار الصلاة إلى الصلاة ، وارزقنا أجر المرابطين في سبيلك . اللهم صن بيوتك من كل مكر سيء يراد بها وبروادها في مشارق الأرض ومغاربها ، وانتصر اللهم  لكل من منع من ذكرك في بيوتك مصليا كان أو داعية نصرا تعز به دينك ، وتذل به أعداءك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

وسوم: العدد 983