( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض )

( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ))

من المعلوم أن كتاب الله عز وجل، وهوالرسالة العالمية الخاتمة الموجهة إلى العالمين إلى يوم الدين، يزخر بوعوده الناجزة سبحانه وتعالى لمن أطاعوه  تماما كما أنها زاخرة بوعيده الناجز لمن عصوه ، وقد تأتي وعوده مع وعيده في سياق واحد .

ووعود الله عز وجل ثلاثة أنواع : وعود دنيوية ، ووعود أخروية ، وثالثة تجمع ما بين الدنيوية والأخروية ، ونفس التقسيم يصدق على وعيده .

ومن وعوده الدنيوية سبحانه وتعالى ما جاء في قوله : (( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )) .

ومدار هذا الوعد الإلهي هو ثلاثة أمور هي: الاستخلاف في الأرض ، وتمكين الدين ، واستبدال الخوف بالأمن . وأما شروط  حصول هذا الوعد فهي: إيمان بالله عز وجل ، وعبادته عبادة  لا يلابسها شرك  ، والعمل الصالح .

ومع أن سبب نزول هذه الآية من سورة النور هو طمأنة الله عز وجل بهذا الوعد عباده المؤمنين بعد هجرتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة  وكان الأمر لمّا يستتب لهم، وكفار قريش يشكلون تهديدا لهم ، والمنافقون يظهرون لهم إيمانا كاذبا ، وهم يوالون سرا أعداءهم ، واليهود يكيدون لهم كل كيد خبيث ، فإن العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها ، الشيء الذي يعني أن وعد الله عز وجل قائم إلى قيام الساعة، فمتى التزم المؤمنون بشروط نيل هذا الوعد مكّنهم منه في كل عصر ومصر .

وإذا ما وقفنا وقفة تأمل وتدبر فيما اشترطه الله عز وجل لنيل وعده الناجز بالاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين، واستبدال الخوف بالأمن ، نجد الإيمان به سبحانه وتعالى هو مفتاح باب هذا الوعد يصاحبه العمل الصالح ، وهو عمل بما شرعه الله عز وجل من معاملات . ومعلوم أن الإيمان لا يصح إلا إذا صلحت الأعمال، فهي المحك أو الميزان الذي يوزن به الإيمان . و معلوم أنه مما ينقض الإيمان سوء الأعمال ، ومن ساء عمله، لم يصدق في إيمانه ، لهذا يتردد في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... " ثم يذكر بعد ذلك نهيا نهى عنه الله تعالى ويكون عملا سيئا . ولا يكفي الإنسان ادعاء إيمان لا يصاحبه عمل الصالحات على اختلاف أنواعها أقوالا وأفعالا .

ومعلوم أن الاستخلاف في الأرض  مرتبط بالضرورة بالأعمال الصالحة التي هي قوام الحياة السوية . ولقد ذكر بعض أهل العلم ومنهم العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى  أن الأمم غير المسلمة إذا صلحت أعمالها وفق السنن الإلهية  قد يستقيم أمرها في الحياة الدنيا ما وافقت أعمالها  شرع الله تعالى ، وذكر أن بعضها قد أخذ مما عند المسلمين من تشريعات وعمل بها، فأصاب من ثمارها.

والاستخلاف الذي وعد به الله عز وجل عباده المؤمنين إيمانا  يكون صادقا مؤيدا بصالح الأعمال، يقترن بتمكينهم من دينه الذي ارتضاه لهم، وقوامه عبادته سبحانه وتعالى دون أي نوع من أنواع الشرك سواء كان جليا أم كان خفيا. ولقد حذر الله تعالى من الإخلال بهذه العبادة بملابسة الشرك لها لأنه كفر، وسمى ذلك فسوقا ، والفسوق عبارة عن خروج عن حدود ما شرع الله عز وجل .

وإذا ما فات المؤمنين  ما وعدهم  به الله عز وجل من استخلاف في الأرض ، وتمكين للدين ، واستبدال خوفهم أمنا، فذلك يعني بالضرورة تعطيلهم لشروط وعده ، ولئن كان  منهم الوفاء بتلك الشروط دون أن يدركوا الموعود، فإن ذلك من الابتلاء والتمحيص لمعرفة صدقهم ، ولقد ابتلى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كانوا معه، وهم مؤمنون حق الإيمان  ، ولم يدرك من جاء بعدهم درجة إيمانهم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بشروط تحقيق وعد الله الناجز لهم  بالاستخلاف في الأرض ، وتمكين الدين لهم ، وإبدالهم الخوف بالأمن خصوصا وهم في وضع لا يختلف عما كان عليه الريع الأول من الصحابة بعد هجرتهم من دار الكفر والشرك بمكة المكرمة  إلى دار الإسلام بالمدينة المنورة . أليس الكفر  اليوم يهددهم ، ويجبرهم على قيمه لتكون بديلا عن قيمهم الإسلامية ؟ أليس أعمالهم يلابسها الفساد الفاضح  ، وهو ما يؤثر على إيمانهم ، أليسوا يعبدون الله عز وجل، ولكنهم يأتون في عبادتهم ما لم يأذن لهم به، الشيء يوقعهم في أشكال مختلفة من الشرك ،حيث صاروا  يعتقدون في المخلوق ما لا يجب أن يعتقد إلا في الخالق سبحانه وتعالى من قداسة ومن عصمة  لم يجعلهما عز وجل  إلا لرسله وأنبيائه صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، ويزكونهم مع أن تزكية الخلق  من اختصاص الخالق عز وجل لا شريك له في ذلك . أليسوا في فترة زمنية أشتد فيها خوفهم ، فهم يخافون أعداءهم من كفار، ومشركين ، ومنافقين ، ويخافون من بعضهم البعض ، ويخافون من الوباء ، و يخافون من انحباس القطر، والجفاف، وقلة الماء  ، ومن الغلاء ، ومن أنواع وأشكال من الظلم ... وقد تعدد خوفهم وأخذ أشكالا وأصنافا؟

إذا كان هذا حالهم ألا يجدر بهم أن يراجعوا أنفسهم على ضوء هذه الآية الكريمة وما جاء فيها من شروط الاستخلاف، وتمكين الدين ، واستبدال الخوف بالأمن ؟

اللهم إنا نسألك عونك ولطفك الخفي حتى نكون في مستوى الوفاء بشروطك التي تجعل وعدك الناجز يحل بنا . اللهم إنا نسألك عبادة لا يلابسها شرك ، ونسألك إيمانا صادقا تصدقه الأعمال الصالحة ، ونعوذ بك من الفسوق بعد الإيمان ، ونسألك الثبات على الدين في زمن كثرت فتنه ، واستبيحت فيه بيضتنا ، وتداعت علينا أمم الكفر والشرك ، وخذلنا المنافقون ، واتخذنا من أعدائنا أولياء ، وعادينا بعضنا البعض ، وأصبح بأسنا بيننا شديدا ، ونعوذ بك من مخالفة شرعك ، ومن الانصياع لشرائع أعدائك . اللهم لطفك الخفي بنا ، فلا خلاص لنا مما نخشاه إلا أنت سبحانك لا إله سواك ، ولا منجي إلا أنت، اللهم آمين يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 991