( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلا الكفور )

من المعلوم أن الله عز وجل اقتضت إرادته ابتلاء الإنسان في الحياة الدنيا ليجازى عمّا عمل فيها في الآخرة . وبالرغم من أنه سبحانه وتعالى ادخر الجزاء لللناس في الآخرة ، فإنه جعل لهم جزاء  في الدنيا أيضا بالرغم من أنها دار ابتلاء ، وذلك إذا ما كفروا بأنعمه سبحانه وتعالى واستعانوا بها على  معصيته .

ولقد قص علينا جل وعلا أخبار أمم جزاهم بجنس ما ارتكبوا من معاص ليكونوا عبرة للعالمين إلى يوم الدين . وطبيعة جزاء الدنيا أن يكون خيرا لمن استقام على صراط الله المستقيم أو يكون شرا لمن حاد عنه وتنكبه . وحين يكون الجزاء شرا لا يكون ذلك إلا بعد إنعام المنعم سبحانه وتعالى إذا ما  يكفر ولم يشكر .

وهذا النوع من الجزاء يكون إما  تحذيرا  لمن يكفر النعم لعله يعدل عن كفرها إلى شكرها، فتعود إليه  مرة أخرى بعد حرمانه منها أو تكون نهايته هلاكا إذا ما أصر على كفرها .

ومن نماذج تغيير النعم إلى نقم  ما قصهم علينا الذكر الحكيم، ويتعلق الأمر بقوم سبإ وهي حاضرة في اليمن تقع بين حضرموت وصنعاء حيث قال الله تعالى فيهم : ((  لقد كان لسبإ  في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتى أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى  ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور )) .

هذه الآيات الكريمة الخمس من سورة سبإ تصور لنا أخذ الله عز وجل قوم سبإ بكفرهم النعم التي أسبغها عليهم حيث كانت مساكنهم حسب ما جاء في كتب التفسير لها جنة عن يمينها وأخرى عن شمالها ، وقيل المقصود بمساكنهم  حاضرتهم  التي كان عن يمينها جنة وعن شمالها جنة ، يأكلون منهما ما لذ وطاب من ثمارهما ، ويتفيؤون ظلالهما ، وكانوا يسقونهما بما يدخرونه من ماء السيول خلال فصول الأمطار في سد شادوه بين جبلين ، وكان المطلوب منهم أن يشكروا الله عز وجل على هذا  السد وعلى الجنتين لكنهم كفروا هاتين النعمتين، فدمر الله تعالى سدهم بسيل عظيم، وحل بهم القحط ، ومحلت الجنتان ، وزالت أشجارهما المثمرة ، وحل محلها  الأثل وهو شجر شائك لا يؤكل ثمره ، وقليل من شجر السدر الشبيه بالعنّاب . ومن نعم الله تعالى عليهم أنهم كانوا يسافرون من اليمن إلى الشام عبر الشريط الساحلي للبحر الأحمر، وعبر الحجاز للتجارة ، وكانت رحلتهم عبر مراحل وعبر محطات يستريحون فيها ذهابا وإيابا إلا أنهم كفروا هذه النعمة أيضا، فحل بهم عقاب الله عز وجل، ومزقهم وفرّق جمعهم شذر مذر. وهكذا كان عقابهم عبارة عن ضياع الجنتين ، وضياع أسباب العيش الخفض، وأسباب الراحة ، وحلول ضنك العيش والشقاء، والتشتت في بقاع شبه الجزيرة العربية .

ومعلوم أن الله عز وجل لم يسرد علينا قصص الأمم السابقة من أجل التسلية وتزجية الوقت بل ساقها لنا للاعتبار لأن سنة الله عز وجل الجارية في الناس إلى يوم القيامة هي حلول نقمه بديلا عن نعمه إذا هي لم تشكر الشكر الذي يليق بمنعمها جل في علاه . وما حصل لقوم سبإ حاصل لا محالة لكل قوم في كل زمان ومكان ،وهو وعد الله عز وجل الناجز .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بتحذير الله عز وجل من كفر نعمه الذي يتسبب في زوالها ، وحلول النقم بعدها خصوصا ونحن نعيش ظرفا خاصا شح مطره ، و قل ماؤه ، وازداد غلاؤه ، وساد الخوف بعد الأمن ، ونسأل المولى جل شأنه أن تقف النقم عند هذا الحد ، ولا تمضي حيث مضت نقم قوم سبإ وغيرهم من الأمم البائدة التي أهلكت بكفرها وشركها ومعاصيها .

فها هي الأمم التي كانت تعيش الرفاهية والرخاء والبذخ  بما أسبغ عليها الله تعالى من نعم الوقود، والغاز، والحب  وكل الثمار من الطيبات  تتحول نعمها إلى نقم لأنها لم تشكر النعم بل عبثت بها حين وفرتها،  فأهرقت أطنان الألبان في الشوارع والطرقات ، ولبست البطيخ أحذية ، وتراشقت بالطماطم ... إلى غير ذلك من العبث العابث ، وكل أنواع ابتذال نعم المنعم سبحانه وتعالى كما نقلت لنا ذلك فيديوهات مصورة تصويرا حيا  من بلاد أوكرانيا  كمثال إلى جانب أمثلة كثيرة في بلاد أخرى ، وهاهو شعبها اليوم يفتقر إلى شربة ماء ، وإلى رغيف خبز بسبب الحرب المدمرة  الدائرة فيها ، وقد مزقت أطرافها ، ومزق أهلها كل ممزق ، ولا زالت النقم تتوالى عليها. وليس أوكرانيا وحدها من حلت بها النقم بل كل أقطار المعمور قد أصبحت مهددة بندرة الوقود وشحه ،وارتفاع أسعاره التي بها حل الغلاء فيما يطعمه الناس وما يشربون ... ، وباتت المجاعات تتهدد شعوبا كثيرة وفي مقدمتها الفقيرة منها .

ولنا عبرة في قوم سبإ ، ولئن لم تهدم السيول العارمة  فإنها في حكم المهدمة وقد قل ماؤها بسبب انحباس المطر في هذا الظرف بالذات ، فزال ما كنا ننعم به من نعم الله عز وجل التي لم نشكرها الشكراللائق بها من طريق استعمالها في طاعة المنعم جل في علاه . ومع كل هذا الذي حل بنا من شح المياه ، وغلاء المعيشة ، وسوء الحال لمن نبادر بالتوبة ، والإنابة، والرجوع إلى الصراط المستقيم عسى أن يعفو عنا خالقنا، ويجعل لنا بعد هذا العسر يسرا ، و يجعل من هذا الضيق مخرجا . وما فكرنا في التوجه إليه بذل السؤال عن طريق صلاة نستسقيه بها وموسم الفلاحة  عندنا قد انصرمت منه أيام ، والقطر منقطع عنا ، ونحن أحوج ما نكون إليه في هذا الظرف بالذات الذي تتوجس منه كل شعوب المعمور .

إن نقم الله عز وجل التي تذهب نعمه إذا ما كفرها الخلق ، ولا يقف أمر عقاب الله عز وجل عند حد معلوم، فقوم سبأ بدلهم الله تعالى بجنّتيهم  المثمرتين  يبابا ، وباعد بين أسفارهم، وبدل راحتهم شقاء ، وانتهى أمرهم إلى شتات وتمزق ، ولهذا علينا أن نتجنب مسار قوم سبإ في كفران نعم الله عز وجل  ، وأن نعجل بالتوبة النصوح موصولة  بشكر النعم  وطاعة المنعم  بها قبل أن تسري علينا سنته التي جرت على قوم سبإ وغيرهم من الأمم الغابرة، ونعوذ برحمة الرحمان الرحيم منها .

وعلينا أن نستحضر في هذا الظرف بالذات قول الله تعالى : (( ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة  يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) . فإذا كنا لا نتصفح القرآن الكريم، وما ضرب فيه الله تعالى من أمثال لقرى قد بدل نعمها نقما ، فلننظر إلى واقع الحال ببلاد كانت شعوبها تتمرغ في النعم، فانقلب نقما ،وحل محل رخائها غلاء ، و محل أمنها خوفا ، وليس لعقاب الله تعالى  إذا ما حل حدود .

اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمال  ومن كفر نعمك بالاستعانة بها على معصيتك ، اللهم لا تهلكنا بما يفعله سفهاؤنا من تجاسر على دينك وشرعك ، وإننا لنبرأ إليك مما يفعلون، وما يقولون ، فلا تؤاخذنا يا مولانا بما يصنعون ، ولا تأخذنا بعذاب يستحقونه ، وعجل لنا  يا مولانا بفرج من عندك وأبدنا   أمنا بعد خوف. اللهم ارحمنا يا أرحم الراحمين بواسع رحمتك،  وعجل لنا برخاء بعد غلاء ، وبيسر بعد عسر ،إننا لا نرجو غيرك ، ولا نسألك إلا أنت سبحانك لا إله إلا أنت إنا كنا ظالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1004