دلالة الكهولة أو الكهولية في القرآن الكريم

جاء في مقالي السابق بعنوان " مراحل عمر الإنسان كما حددها القرآن الكريم" أن  الناس يجعلون الكهولة أو الكهولية مرحلة بين سن الشباب وسن الشيخوخة ، وذكرت أن ما جاء في كتاب الله عز وجل هو ذكر سن الطفولة وسن "الأشدية "، و سن الشيخوخة ،وأقصاها أرذل العمر أو " الأرذلية " ، واستدرك علي أخي الفاضل الأستاذ الحسن جرودي بالقول أن الكهولة ورد ذكرها في كتاب الله عز وجل في سياق الحديث عن المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام ، فقلت له ساعتها أن دلالة ما وصف به الله عز وجل نبيه المسيح ليس هو ما يقصده الناس عندنا بالكهولة ، وارتأيت أن أحرر هذا المقال في بيان دلالة الكهولة أو الكهولية في القرآن الكريم كما جاءت في قوله تعالى واصفا نبيه الكريم عيسى ابن مريم عليهما السلام : (( يكلّم الناس في المهد وكهلا )) ، وكان لا بد أن أعود إلى بعض كتب التفسير قديمها وحديثها قبل العودة إلى معاجم اللغة العربية ، فوجدت الزمخشري رحمه الله تعالى يقول: " الكهولة هي التي يستحكم فيها العقل ، ويستنبأ فيها الأنبياء " .

أما الطبري رحمه الله تعالى فقال : " الكهل هو المحتنك فوق الغلومة  ودون الشيخوخة " ، كما قال : " كهلا بالغا كبيرا بعد احتناكه " ، وقال أيضا : " الكهل الحليم ".

وأما الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى فقال : " الكهل من دخل في عشرة الأربعين ، وهو الذي فارق عصر الشباب ، والمرأة شهلة بالشين ، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل " ، ويضيف : " قد كان عيسى حين بعث ابن نيّف وثلاثين " ، والنيّف الزائد على العقد من الواحد إلى ثلاثة .

وبالرجوع إلى معاجم اللسان العربي نجد من معاني الكهولة أو الكهولية  ما يلي : ـ الكهل من جاوز سن الشباب ، ولم يصل سن الشيخوخة .

ـ الكهل من بلغت سنّه ما بين الثلاثين والخمسين .

ـ الكهل من خطّه الشيب، وهو ما بين نيّف وثلاثين والستين .

ـ  الكهل من وخطه الشيب، وكانت له بجالة .

ـ الكهل من تجاوز سن الشباب وكمال قوته .

ـ كاهل الرجل إذا صار كهلا مسنّا .

ـ كاهل القوم سندهم ، ومعتمدهم ، وعهدتهم .

ـ شديد الكاهل هو منيع الجانب ، وذو المكانة المرموقة

ـ اكتهل النبات إذا تمّ طوله ، وظهر نوره .

ـ اكتهلت النعجة إذا انتهى سنها .

إذا ما عدنا إلى قول الزمخشري ، نجده يقصد بالكهولة استحكام العقل، وبلوغ سن الاستنباء بالنسبة للأنبياء ، وهي سن " الأشدية " كما في قوله تعالى : (( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة )) .

أما إذا رجعنا إلى قول الطبري،  فنجده  يقصد بالكهولة الاحتناك ،وهو من الحنكة ، وهي التجربة ،والبصر بالأمور ، والتي تكون فوق سن الغلومة ، وهي سن مقاربة البلوغ أو الحُلم ، ويؤكد ذلك قوله : " هو الحليم " .

وأما إذا رجعنا إلى ابن عاشور ، فنجده يحدد يقصد بالكهل من دخل في السنوات العشر للأربعين ، وهي من الواحدة والثلاثين إلى اكتمال الأربعين ، ويؤكد ذلك قوله : " كان عيسى حين بعث ابن نيّف وثلاثين " أي حين كلّم قومه بصفته نبيّا لا بصفته صبيّا .

أما بالرجوع إلى المعاجم ، فنجد أقوالا مختلفة ، ذلك أن بعضها يجعل الكهولة مرحلة بين مرحلة الشباب ومرحلة الشيخوخة ، وبعضها يحددها ما بين سن الثلاثين وسن الخمسين ، وبعضها يحددها في وخط الشيب ، وهو ظهور بعض الشيب في سواد شعر الرأس ، ويجعل ذلك بين سن الثلاثين وسن الستين . وبعضها يجعل الكهل هو المسنّ ، علما بأن المسن هو من بدت عليه أعراض الشيخوخة أو الهرم .

ونخلص إلى دلالة وصف المسيح عليه السلام بالكهل الواردة في كتاب الله عز وجل ،فنجدها  تعني أنه كان ابن نيّف وثلاثين سنة ، ومن المستبعد أن يكون قد وخطه الشيب  في هذه السن ، والشيب من علامات الشيخوخة ، وأنه كان قد بلغ أشده وكمال قوته ، ويؤكد ذلك قولهم اكتهل النبات إذا تمّ طوله ، وظهر نوره.  ولقد كانت له بجالة أي  جمال ، ونبل ، وعظمة ، وقدر، وهو آية من آيات الله تعالى المعجزة ، و كان كاهلا  بمعنى منيع الجانب  ، ذو مكانة  مرموقة عند الله ،كما وصفه  سبحانه وتعالى وقد منعه مفندا من زعموا أنهم قتلوه وصلبوه، وكل ذلك وارد في صفة الكهولة أو الكهولية التي وصفه بها الله تعالى ، فضلا عما تعنيه  من إشارة  إلى سنّه .

وأخيرا أرى أن المعتمد في تحديد عمر الإنسان هو ما ذكرته في المقال السابق طفولة ، "وأشدية " ، وشيخوخة قد تنتهي " بالأرذلية " ، وأما الكهولة أو الكهولية باعتماد وصف الله تعالى لنبيه الكريم عيسى ابن مريم، فهي خلاف ما يذهب إليه الناس وهم مختلفون في عدد سنواتها ،فمن قائل  خمسين ـ وقائل ستين ،وهي فترة لا يعدم فيها كثير من الناس أشديتهم  جسما وعقلا ، ولا تنطبق عليهم أوصاف الشيخوخة من وهن وشيب .

وآخرا أشكر لأخي الفاضل الأستاذ الحسن جرودي استدراكه عليّ بخصوص كهولة المسيح عليه السلام ، ولولا ذلك ما كتب لهذا المقال أن يحرر، ولله قبل ذلك  الحمد والمنة .

وسوم: العدد 1015