التجارة الرابحة في سوق الخير

العمل الخيري بكل أبوابه ومشاريعه هو من طبيعة أبناء أمتنا على امتداد الحقب التاريخية ، فأسفار المآثر ، وسِير المحسنين ، وشهادات الأيام العصيبة التي مرَّت بها الأمة ... تشهد على أن للأمة مكانتها الإنسانية العالية في هذا المجال الذي أغناه الرجال الأبرار بدعمهم وأوقافهم وتبرعاتهم لإخوتهم المحتاجين ، ونشعر دائما أن للمسلم دافعًا ذاتيًّا يمنحه المسارعة إلى أبواب الخير ، وأداء حق الله وحق السائل والمحروم وحق المصاب بجائحة . وتلك هي حقيقة الإيمان بالله وما أعده سبحانه لعباده أهل الإحسان والجود يوم لاينفع مال ، وتبقى الصالحات الباقيات هي الثمرة اليانعة التي يقطفها المحسن في جنات النعيم التي أعدت له ، وهو مَن قام بغراسها في حياته الدنيوية الفانية .

فطوبى لِمَن جاد وأعطى لوجه الله ممَّـا أعطاه الله سبحانه ، وقدَّم آخرته من هذا الرصيد الهائل ، وهو يساعد الأيتام والأرامل والمعاقين ومَن ابتلاهم الله في حياتهم فصبروا ونالوا أيضا المكانة العالية عنده سبحانه وتعالى لإيمانهم وصبرهم . ناهيك عن فضل مَن بنوا المساجد أو حفروا الآبار أو جهزوا للحجاج لوازمهم ... أو غير ذلك من أبواب الخير التي لاتُحصى . فأعمال كهذه فوائدها جمَّةٌ ، ومقاصدها نبيلة ، وتبقى عنوان صدق للمؤمنين الصالحين من أبناء أمتنا الكريمة التي هي خيرُ أمةٍ أُخرجت للناس .

والمعرفة بمكانة العمل الخيري تؤكد الدخول في بوَّابات حقول الفضائل والمآثر ، وفي تنوير البصائر ، والسمو بالسلوك الإنساني ، وبالتالي تحقيق ما يصبو إليه المجتمع من الإخاء والمودة والتكافل ، والشعور الأخوي الحقيقي الذي يُنبئُ عن القيم الكريمة التي حث على العمل بمقتضاها ديننا الإسلامي الحنيف ، وصاحبها ـــ لاشك ـــ أنه صاحب نضوج إيماني ، فقد عرف قيمة معاني العمل الخيري ، فـأثرى حياته بهـا ، وأشاعها محبةً وإيثارًا وأُلفةً بين أبناء قومه ، وهذا الإنسان نال وسامَ الشكر والتقدير من مجتمعه ، وكان من أهل العزائم الذين يؤثرون ماوعدهم الله به عن أي مكانة أخرى . وفي ذلك انتصارٌ على النفس الأمارة بالسوء ، وعلى الشيطان الذي يحاول منع هذا المحسن الفاضل من السير في بساتين المودة والرحمة بين أهله وأرحامه ومجتمعه . فقد انتصر على نفسه وشحهــا وشيطانه و وسوسته ، وبالخير والتقوى يرتقي المسلم على مدارج الفضل مستجيبا لنداء ربــه سبحانه وتعالى ليكون من المقربين : (( إن الأبرار لفي نعيم . على الأرائك ينظرون) قال العلماء في تفسيرها وما بعدها : ( الأبرار: جمع بر، والبر كثير الخير، كثير الطاعة، كثير الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فهؤلاء الأبرار الذين منّ الله عليهم بفعل الخيرات، وترك المنكرات في نعيم، إن الأبرار لفي نعيم : والنعيم هنا يشمل نعيم البدن ونعيم القلب، أما نعيم البدن فلا تسأل عنه فإن الله سبحانه وتعالى قال في الجنة:  وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون. وقال تعالى : فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون . وأما نعيم القلب فلا تسأل عنه أيضاً فإنهم يقال لهم وقد شاهدوا الموت قد ذبح يقال لهم ):  يا أهل الجنة خلود ولا موت ويقال لهم: ادخلوها بسلام، ويقال لهم: إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وكل هذا مما يدخل السرور على القلب فيحصل لهم بذلك نعيم القلب ونعيم البدن، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . فيالها من عاقبة عظيمة ، وباله من ثواب جزيل ، ويالها من مكانة في جنات الخلود . قال سبحانه : ( إنَّ الأبرار لفي نعيم ، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نظرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك في ذلك فليتنافس المتنافسون ، ومزاجه من تسنيم ، عينا يشرب بهـا المقربون ) 22/28/ المطففين . إنه تصديق لحقيقة القرب من الله ، ونيل الدرجات العاليات التي يبلغها الأبرار الذين تنافسوا في أعمال الخير والبر والإحسان ، وهذا السلوك الذي ينمُّ عن ربانية العبد الصالح الذي منحه أجمل صور الإخاء المحمود ، وأنبل السبل التي ترقى بالنفس الإنسانية .

التجارة الرابحة في سوق الخير هي عنوانُ دعوةٍ جادةٍ للمبادرة ـــ ومن غير تلكؤٍ ـــ لاتخاذ المواقف الإيجابية التي تؤكد على صدق النفس مع ربها ، وانضمامها في عداد المسارعين مع أهل المآثر والمحامد ، ولكيلا تُفوِّتَ القلوبُ الطيبة فرصَ العطاء في سبيل الله ، ومواسم طرق أبواب الجنة ، حيث يدخلها الفائزون على صورة القمر ليلة البدر ، وفيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . قال تعالى : ( فلا تعلمُ نفس ما أُخفي لهم من قرَّةِ أعين ... ) 17/ السجدة .

وإنه لتكريمٌ من الله للمحسنين الذي أثروا أسواق العمل الخيري بأنفاسهم العطرة ، وعملوا على إعمار الأرض كما أراد لهم ربهم بالخير والإخاء والتكافل الاجتماعي ، وفي العمل الخيري تتجلى الصور المشرقة لسلوك أولئك الأبرار الأخيار ، حيث مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ، بلا مَــنٍّ ولا أذى ، وما أجمل النفس التي تقرن القول بالعمل ، والغِنى بالجود ، والسَّجية بالمروءة ، وطوبى لرواد العمل الخيري الذين يمنحون مجتمعهم قوة الترابط ، وسعادة الحياة للفقراء و شرائح المحتاجين ، وإخوانهم الضعفاء الذين بهم وبدعواتهم تُنصر الأمةُ ، وتنزل الرحمات من السماء .

وسوم: العدد 1024