حديث رمضان : ( الحلقة الخامسة ) (( يدعون ربهم خوفا وطمعا ))

إن المقبلين على كتاب الله عز وجل، وهو مائدته الشهية الأطباق في هذا الشهر الفضيل، يجعلهم يتفاعلون معه تفاعلات تختلف من الواحد إلى الآخر حسب طبيعة إقبالهم عليه استيعابا ،وفهما ،وتدبرا ،وتخلقا ، واستقامة ، والتزاما.

 ومعلوم أنه من خلال مصاحبة  الذكر الحكيم في كل وقت وحين، تتوزع المصاحب  ثنائية شعورية قوامها الخوف، والطمع  كما سماهما الله تعالى ، والطمع هو في حقيقة أمره رجاء ، ذلك أن الطامع يرجو بالضرورة شيئا ممن يطمع فيه .

و مثل هذه الثنائية الشعورية ما ميز به الله تعالى صفوة  خلقه من أنبيائه  ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام أجمعين ،  كما جاء ذلك في قوله عز من قائل  في سياق الحديث عنهم : (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )) ، ولمّا كان الله تعالى قد جعل أنبياءه ورسله الكرام وهم المعصومون قدوة يقتدي بهم  سائرخلقه ، فإن الاقتداء بهم في صفاتهم لا يعني إدراك شأوهم فيها، لأن إدراك ذلك  أبعد بعيد  بل هوعزيز المنال ، وكل ما يدرك  بالاقتداء بهم  هو محاولة  اقتفاء أثرهم ، وليس مقتفي الأثر كم يحذو حذو النعل بالنعل ، وقليل هم من يقتفون أثر تلك الصفوة ممن ألهمهم الله تعالى حسن الاقتفاء، وأنعم عليهم بهذه النعمة، وهؤلاء هم من وصفهم الله تعالى بالثانية الشعورية الخاصة بهم في قوله : (( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خرّوا سجّدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون )) ، وهذه الثنائية الشعورية التي قوامها الخوف والطمع هي أقصى مبتغى يطمح إليه عموم الخلق من المؤمنين، وهي ثنائية محاكية لثنائية صفوة الأنبياء والرسل عليهم السلام التي قوامها الرهب والرغب  لكن  دون أن تدرك شأوها .

وفي الحديث عن رهب ورغب  صفوة خلقه من أنبيائه ورسله الكرام عليهم السلام ، قدم الله تعالى الحديث عن مسارعتهم في الخيرات ، وفي  هذه المسارعة ما فيها من كثرة الإقبال على فعل تلك الخيرات مع كثرتها في نفس الوقت ، وكان حال تلك الصفوة أنهم يجمعون بين المسارعة في تلك الخيرات، وبين دعاء ربهم دعاء يعكس رهبهم منه، ورغبهم في الإقبال عليه .

أما في الحديث  عن خوف وطمع عباده المؤمنين، فقد قدم على ذلك سجودهم وتسبيحهم بحمده، وهو ما يجعل جنوبهم تتجافى عن مضاجعهم خوفا من ربهم وطمعا في عفوه ، مغفرته، ورحمته، وفيما وعدهم به من فضله في الدار الآخرة ، وجاء ذكر إنفاقهم مما رزقوا متأخرا بعد أن يتعاورهم  الشعور بالخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم ، وهو ما يحملهم على السجود والتسبيح بحمده ، كما يتعاورهم الشعور بالخوف ، والشعور بالطمع ، وهو طمع في العفو والمغفرة ، وطمع في النعيم المقيم أيضا، وحري بما خاف من ربه ، وطمع في فضله أن يجود على غيره بالإنفاق ، ومع ذلك  شتان بين مسارعة صفوة الخلق إلى الخيرات ، وبين إنفاق الخاشعين من  عموم الخلق المؤمنين ، ذلك أن الذي يحمل هؤلاء على الإنفاق هو الخوف والطمع عسى أن يأمنوا من خوفهم توسل به  إلى خالقهم ، بينما الصفوة الكرام من أنبياء الله تعالى ورسله، يبادرون بالمسارعة في الخيرات لمعرفتهم بعظمة خالقهم ، وهي معرفة اقتضت منهم الرهب منه، والرغب في مرضاته، وهي مرتبة الأصفياء التي تعلو مرتبة الخوف والطمع.

وكل من أقبل على كتاب الله عز وجل أو على مائدته كما مر بنا في أحاديث سابقة من  هذه السلسلة من الأحاديث الرمضانية ،سيعيش لا محالة الثتائية الشعورية التي قوامها الخوف والطمع شريطة أن يؤدي مقابلا عن ذلك كما حدده الله عز وجل، وهو إيمانه بآيات الله عز وجل حين  يذكرها أو يذكّر بها ، وهو إيمان يزداد  لا محالة مع الإقبال على القرآن الكريم حتى يبلغ بصاحبه درجة الخرور ساجدا، ومسبحا، بحمد ربه ، ومتجافياعن مضجعه ، ومنفقا جودا مما رزقه سبحانه وتعالى .

وإذا كان هذا من المفروض أن يحصل مع كل إقبال على كتاب الله عز وجل في سائر الليالي ، فبالأحرى أن يحصل في ليالي شهر الصيام الفضيل . ومن لم يجد شيئا من هذا الذي وصف به الله عز وجل عباده المؤمنين في هذا الظرف، فليحاسب نفسه على التفريط في التعامل مع الذكرالحكيم كما أوجب الله عز وجل .

 وحسب القائم في ليالي رمضان أن يذكر وهو تال لآية من  أيات كتاب الله عز وجل  أو يذّكر بها  وهو خلف من يؤمه ، ويتلوها عليه ليكون بذلك رهين خوف من خالقه ورهين طمع في عفوه، ومغفرته، وفضله، وإنعامه  عليه في آخرته ،خصوصا إذا كانت تلك الآية مما خوّف بها الخالق سبحانه وتعالى  خلقه من عقابه  ، أو مما أطمعهم بها  في رحمته، وعفوه، ومغفرته .

أما من تمر به تلك الآيات، وهو قائم  دون أن تحرك فيه وازعي الخوف والطمع ، فليس له سوى السهر كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر " ، فهذان سيّان في خسارة فادحة لا تعوض إلا أن يتداركهما الله تعالى بلطفه ، وهو اللطيف ، الرؤوف، الرحيم .

ولا بد لمن حركت فيه الخوف والطمع  آيات بعينها في هذا الشهر الفضيل، وهو قائم أن يرسخها في ذهنه، وفي وجدانه، وأن يجعلها ملازمة له ، ويظل ملتزما بمقتضياتها سائر أيامه حتى يلقى ربه عز وجل، وهو على هذه الحال ، عسى أن يكون بذلك من الآمنين الفائزين  يوم الفزع الأكبر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

وسوم: العدد 1028