فلنتعلّم من القرآن قيمة العدل والإنصاف

تردّدتُ كثيراً في اختيار عنوان المقالة، فقد رأيتُ أننا، في كثير من الأحيان، ننظر إلى المسألة الواحدة من وجه واحد ونقْصُر حكمنا عليه، مع أن للمسألة وجهاً آخر قد لا يقل أهمية عن الوجه الأول، وبذلك نبالغ في مدح أو في ذم.

نعم هناك أفراد أو دول أو مواقف... يكون الخير فيها عامّاً بحيث يضؤل فيها جانب الشر، كما يكون الشر في غيرها عامّاً طامّاً، لا تكاد تلمح فيه خيراً. لكن النظرة الشاملة تبقى مهمة حتى تكون أحكامنا مُنصِفة متوازنة، ولا نقلبها فجأة لظهور خصلة كنا نجهلها أو نتجاهلها.

في كتاب الله تعالى نقرأ عن أهل الكتاب قوله سبحانه: (ومِن أهل الكتاب مَن إنْ تأمَنه بقنطارٍ يؤدّه إليك، ومنهم مَن إن تأمنه بدينارٍ لا يؤدّه إليك إلا ما دُمتَ عليه قائماً). {سورة آل عمران: 75}. فلنعلم أن أخلاق أهل الكتاب ليست سواء.

ونقرأ عنهم كذلك أنهم: (ضُربت عليهم الذلّة أين ما ثُقِفوا إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس، وباؤوا بغضب من الله...). {سورة آل عمران: 112}. ثم نقرأ في الآية التي تليها: (ليسوا سواءً. من أهل الكتاب أمّةٌ قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)، إلى قوله تعالى: (وما يفعلوا من خير فلن يُكفَروه. والله عليمٌ بالمتقين).

وفي المقابل نقرأ في كتاب الله عن جماعة هي من خير الناس، أقصد أهل بدر الذين قال فيهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لعل الله عز وجلّ اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم". رواه البخاري ومسلم.

فنرى أن الله تعالى وصف بعضهم، وهم على أعتاب المعركة، فقال: (كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبيّن، كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون). {سورة الأنفال: 5 و6}. وقد يخطر على البال: يا ربِّ لم ذكرتَ فيهم هذا الموقف مع أنهم أبْلَوا بعدئذ بلاءً حسناً، وبهم كان يوم الفرقان؟!. إن الله تعالى يعلّمُنا دروساً بذلك، منها أن الضعف البشري قد يصيب عظماء الناس في بعض اللحظات، ومنها أن القمّة التي وصل إليها العظماء ربما كان قد سبقها مواقف ضعف تعلّموا منها حتى قويت نفوسهم وصاروا أهلاً للمكانة الرفيعة.

ونقرأ قول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما). {سورة الحجرات: 9}. ويتبادر إلى الذهن واجب الإصلاح بين الطائفتين المسلمتين، وهذا صحيح، ولكنه كذلك يفيد أن الاقتتال، وهو من أخطر الأمور، يمكن أن يقع بين المؤمنين، وكذا أي خطر آخر، ويفيد أن موقف المؤمنين، خارج الفئتين المتقاتلتين، لا يجوز أن يكون موقف المتفرّج أو الشامت، أو الشاتم، بل موقف المُصلح. وإذا تبيّن أن إحداهما باغية فلا يجوز أن يكون الموقف كذلك سلبياً، بل يكون موقفاً مسؤولاً: (فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله). وكيف نحكم على إحداهما أنها الباغية؟!. لا يكون هذا بتلقّي الأخبار من الكفار أو الفساق، فلا يؤتمن هؤلاء على أخبار المؤمنين. ثم: ألا تفيد الآيات الكريمات أن الفئتين، مع اقتتالهما، لم تخرجا من صفة الإيمان، بل ما زالتا تستحقان أخوّة الإيمان: (إنّما المؤمنون إخوة فأصلِحوا بين أخويكم).

ونحن اليوم نجد فصيلاً يتصارع مع فصيل، فليكن واجبنا الإصلاح بينهما ما استطعنا، وتلقّي أخبارهما من جهات مؤمنة موثوقة لا من جهات علمانية مُغرضة.

كما نجد زعيماً نختلف في قراءة مواقفه، فمنهم مَن يجعله كصلاح الدين نُبلاً وشجاعةً وكرماً... ويسوّغ له كل موقف يغاير هذه الصفات، ومنهم مَن يطعن فيه ويجرّده من كل خير وفضيلة. ولو أن الفريقين اتّصفا بالعدل والإنصاف لاعتدل موقفهما منه. نعم، إنه ليس كصلاح الدين، لكنه كذلك ليس كبوتين، وإن له حساباته وموازناته التي نتفق معه فيها أو نُخالفه، لكن العدل والإنصاف يمنعان من الجنوح والغلوّ.

وقد وَرَدَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "أحبِبْ حبيبَكَ هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".

وقال ابن الأثير (544 – 606 هـ) رحمه الله: "ليس الصديق مَن عَدّ سقطات قرينه وجازاه بِغَثّه وسمينه، بل الصديق مَن ماشى أخاه على عَرَجه، واستقام له على عِوَجه، فذلك الذي إن رأى سيئةً وطئها بالقَدَم، وإن رأى حَسَنةً رفعها على عَلَم".

ولا يعني الاعتدال الذي دعا إليه كتاب الله، أن نجعل المسلم كالمجرم، بل مَن كان مؤمناً ويبدو عليه الصلاح فنُحسن الظن به، ونؤيّده فيما يبدو لنا من صلاحه، ونرفض ما يظهر منه من سوء، وننصحه ونقوّمه...

وأما الذي يرفض أصلاً الاحتكام إلى شرع الله فهو المرفوض وإن قبِلنا منه بعض المواقف وبعض التصرّفات.

الاعتدال أن ننظر إلى المسألة من وجوهها المختلفة، وأن نفرّق بين توجُّهٍ ينتظم معظم المواقف، وبين موقف طارئ حسنٍ أو سيّئ.

(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).

(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى).

وسوم: العدد 1044