( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد )

مما أشار إليه الله عز وجل في محكم التزيل، أن رسالاته المتعاقبة عبر التاريخ  كانت  كلها موضوع جدل عند منكريها، بالرغم مما كان رسل الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين يقدمونه من آيات هي أدلة وبراهين دامغة ومقنعة بصدقها ، وبنزولها من عند الله عز وجل . وعلى غرار الرسالات السابقة ، لم تسلم الرسالة الخاتمة المنزلة على سيد المرسلين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والموجهة للعالمين إلى يوم الدين من جدل المجادلين المكذبين بها والمنكرين لها ، كما أخبر بذلك رب العزة جل جلاله في قوله عز من قائل : (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد )) ، ومعلوم أن من نزلت فيهم هذه الآية الكريمة، إنما هم كفار قريش الذين كانت مجادلتهم في آيات الله عز وجل كمجادلة من كان قبلهم من الكافرين برسالاته السابقة .

ولما كانت العبرة بعموم لفظ كتاب الله تعالى ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن أحكامه المرتبطة بتلك الأسباب، تشمل كل من أشبهت أحوالهم أحوال من  كانت تعنيهم تلك الأسباب .    

و صيغة لفظ المجادلة، يدل على المبالغة في فعل الجدل المتكرر ، وهي مجادلة بالباطل يدعو إليها الإصرار على التكذيب  بالرسالات التي آخرها الرسالة الخاتمة . ولقد  كان كفار قريش في مجادلتهم، يقولون عنها تارة  أنها : (( أساطير الأولين )) ، وتارة هي  : (( سحر مبين )) ، وطورا هي: (( قول شاعر )) أو(( قول كاهن )) ... إلى غير ذلك من أنواع الجدل بالباطل عن طريق  أوصاف تدل كلها على التكذيب بها مكابرة وعنادا .

ومجادلة الكافرين في آيات الله عز وجل أمر معلوم ،كما أخبرت بذلك هذه  الآية الكريمة ، إلا أنه قد يستغرب المؤمنون بها  تأخر أو تراخي زمن نزول العقاب بالمجادلين فيها ، وهم  مصرون على ذلك إصرارا ، لهذا أخبر الله تعالى بعد ذكر مجادلتهم  أن عذابه نازل بهم لا محالة مهما تراخي عنه الزمن،  فقال: (( فلا يغررك تقلبهم في البلاد )) .

ومعلوم أن الغرور أو التغرير، هو أن يظن الإنسان في شيء خلاف ما هو عليه ، ومن هذا الظن أن  يستبطأ المؤمنون نزول العقاب بالمجادلين  في آيات الله ، وهم يتقلبون في أحوال مختلفة من المتع والنعم، ورفاهية العيش ... سالمين ، والحقيقة أن  ذلك إنما هو استدراج لهم ليزدادوا مجادلة وعنادا ومكابرة إلى أن تحين ساعة أخذهم كما جرت بذلك سنة الله تعالى في السابقين من المجادلين في آياته بالباطل ، وهو ما يؤكده أيضا قوله تعالى : ((  لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )) أو قوله تعالى : (( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء )) .

ولا يقتصر أخذ الله عز وجل المجادلين في آياته على عقاب الآخرة، بل قد يعجل لهم به في دنياهم كما قص علينا أخبار أكثرهم  في محكم تنزيله ،و نذكر منهم على سبيل المثال قوم فرعون الذين عاقبهم الله تعالى بالغرق ، وقال عنهم : (( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثنها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين )) ،هذا إلى جانب  ما توعدهم به من عذاب الآخرة كما قال سبحانه وتعالى : (( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب )).

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين الذين يستعجلون انتقام الله عز وجل من الذين يجادلون بالباطل في آياته، سواء كانوا من الكافرين أو من الذين يقلدونهم في جدالهم، وهم بعض المحسوبين على الإسلام ادعاء تكذبه أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، وهم كالذين  قال فيهم الله عز وجل : (( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير )).

ولقد ساء كثيرا من المؤمنين ما راج مؤخرا من مجادلة  بالباطل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من طرف بعض المحسوبين على الإسلام  متابعين في ذلك  ما كان يسوقه بعض كفار المستشرقين الذين كانت مهمتهم هي التمهيد لغزو بلدانهم بلاد المسلمين طمعا في خيراتها  ، وكانت مقدمة  ذلك الغزو العسكري غزوا فكريا دار معظمه حول المجادلة بالباطل في دين الله عز وجل قرآنا وسنة من أجل تشكيك المسلمين في دينهم  ، وإعدادهم لقبول ما جاء به غزاتهم والانخراط فيه ، وهو عبارة  نموذج حياة لا دينية منحرفة عن صراط الله المستقيم ، وتكون النتيجة هي طمس معالم هويتهم الإسلامية .

وما يقوم به اليوم المتجاسرون على سنة سيد المرسلين ،وهي جزء من الوحي الذي أوحاه إليه الله تعالى، يتزامن مع مؤامرات الغرب العلماني ضد دين الله عز وجل ، وقد ازدادت وتيرتها من أجل ترجيح كفة العلمانية المستنبتة في بلاد المسلمين استنباتا  عن طريق عناصر مشبوهة،هي عبارة عن أفراد وجمعيات ترفع شعارات المطالبة بالحريات بما فيها حرية الردة  ، وهم ينادون بتغيير ما شرع الله تعالى لعباده المؤمنين من أجل حياة كريمة خص بها بني وقد فضلهم  على كثير ممن خلق تفضيلا . ومعلوم أن ما يطالب به هؤلاء، إنما هو مفاسد تستهدف المجتمعات الإسلامية من خلال الإجهاز على نواتها الصلبة التي هي الأسرة ، وهو إجهاز يركز على إفساد ربات البيوت اللواتي هن صمام أمان الأسر وناشئتها.  

وأمام هذه الحملات المسعورة التي يقودها "المتعلمنون" في البلاد الإسلامية نيابة عن العلمانية الغربية ، قد يغر بعض المؤمنين تقلب هؤلاء في البلاد ، وهم يستغربون كيف يستهدفون دين الله  جهارا نهارا ، ويتأخر عنهم عقابه ؟  يقولون هذا، ويغيب عنهم ما جاء في كتاب الله عز وجل في قوله : (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد )) . ولهذا يجدر بكل مؤمن أن يكون على يقين تام بأن الله تعالى إنما يملي للذين يجادلون في آياته ، ويستدرجهم من حيث لا يشعرون كي يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .

اللهم إن الذين يجادلون في آياتك بالباطل لا يخفون عليك ، وأنت أعلم بهم ، وبما يكيدون لدينك ، فكدهم يا ربنا بكيد العظيم ،  وعجل لهم  بما توعدت به  من كان قبلهم من المجادلين في آياتك  بالباطل ، واشف صدور عبادك المؤمنين الذين لا يرتابون طرفة عين في وعدك الحق .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1046