(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين )

من المعلوم أن إرادة الله عز وجل اقتضت ابتلاء المؤمنين من عباده بالبأساء والضراء، مصداقا لقوله عز من قائل : ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى نوع الابتلاء الذي يُبتلى به المؤمنون ، وهو الجهاد، والصبرعليه ، وهما أمران متلازمان إذ يقتضي الجهاد صبرا وتحملا  لما فيه من  كبير مشقة، وشدة خطورة، قد تصل إلى مفارقة الحياة ، وهو ما تكرهه النفوس مصداقا لقوله تعالى : (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) . وما فرض الله تعالى القتال على عباده المؤمنين إلا صونا لبيضة دينه ، وهو الخير المشار إليه في هذه الآية الكريمة، لأنه بإقامة هذا الدين ينعم المؤمنون ، ومعهم عموم البشر في الأرض بالسلام، والأمن، والاستقرار، والرخاء، والعيش الكريم .

وإذا كان قول الله تعالى في الآيتين السابقتين قد جاء في سياق الحديث عن هزيمة المؤمنين في غزوة أحد ، فإن العبرة بعموم لفظهما، لا بخصوص سببهما ، وبعموم لفظ ما تلاهما بعد ذلك  كقوله تعالى : (( وكأيّن من نبي قتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين )) ، ففي هذه الآية الكريمة ذكّر الله تعالى المؤمنين في أحد ، ومن خلالهم ذكّر جميع المؤمنين إلى قيام الساعة بما كان عليه حال من سبقهم من المؤمنين المجاهدين من أتباع رسله وأنبيائه الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين حين كانوا يُقتلون جهادا في سبيل الله دون أن تفتر عزائمهم أو يفل فيها القتل . ولقد نفى عنهم الله عز وجل الوهن ،والضعف ،والاستكانة ساعة مواجهة أعدائهم . ولقد جاء في كتب التفسير أن الوهن هو خور العزيمة، ودبيب اليأس في النفوس ، وأن الضعف هو الفشل والاستسلام ، وأن الاستكانة هي الخضوع والمذلة للعدو، والملاحظ أن هذه الثلاثة يفضي بعضها إلى بعض . ولقد سردها الله تعالى متتابعة لتحذير عباده المؤمنين منها  في كل عصر وفي كل مصر إلى قيام الساعة. وقد سمى الله تعالى خلو النفوس منها صبرا ، وجعل الصابرين أحبته ترغيبا لهم في التخلق بما تخلق به من كان قبلهم من عباده المؤمنين المجاهدين الصابرين في سبيل إعلاء كلمته . وفضلا عما وصف به هؤلاء أردف سبحانه وتعالى بأوصاف أخرى اتصفوا بها قائلا : (( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين )) ، ففي هذه الآيات الكريمة بيان حالهم ،ذلك أنهم  بالرغم  مما كانوا عليه من صبر دفعوا به عنهم الوهن، والضعف، والاستكانة، لم  يزكوا على ربهم أنفسهم، بل تضرعوا إليه طالبين منه أن يغفر ذنوبهم ،  يتجاوز عن تقصيرهم في أمر  نصرة دينه ، وهم يرجون بتلك الضراعة أن يثبت أقدمهم وهم يواجهون أعداءهم ، وينتظرون نصرا عليهم من عنده . ولقد نفى الله تعالى عنهم قولا غير هذا الذي قالوه مما قد يدل على الاغترار بإيمانهم  أو بتزكية نفوسهم وادعاء خلوها من الذنوب أو البراءة من التقصير في أمر الدين أو التضجر من مكابدة مشقة الجهاد ، أو الجزع من فقد الأنفس ... إلى غير ذلك مما قد ينقض الصبر على المكروه  في سبيل الله . وجعل الله تعالى جزاءهم ثوابا في دنياهم وهو عبارة عن عزة ،  ونصر وغنائم ، وحياة كريمة في ظل سيادة دين الله عز جل ، وجعل خيرا من ذلك  ثوابهم في الآخرة، وهو أحسن مما أعطاهم في دنياهم، لأنهم أحسنوا بصبرهم وجلدهم في سبيل نصرة دينه ، وقد أحبهم لأجل ذلك.

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بما أمرهم به الله تعالى من صبر على المكاره من أجل نصرة دينه ، وإعلاء كلمته ، خصوصا وإخوة مؤمنون لنا بأرض الإسراء والمعراج يخوضون نزالا مع أعداء ديننا الذين يعيثون فسادا في أرض الإسراء والمعراج ، ويدنسون مقدساتها وعلى رأسها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين . وإننا اليوم وفي هذا الظرف  نسمع مثل ما كان يقوله المرجفون من المنافقين  ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخوض غزوة أحد حيث نشروا الخبر الكاذب عن موته من أجل بث الوهن والضعف والاستكانة في نفوس المؤمنين المجاهدين , وها نحن اليوم نسمع بأنواع من الأراجيف يراد بها النيل من عزائم المجاهدين الصامدين في أرض الإسراء والمعراج خصوصا في قطاع غزة ، وصرفهم عن الثبات في جهادهم ومقاومتهم لهذا العدو بعدما لقنوه درسا قاسيا لم يعرف مثيلا له من قبل  ، وقد فضحوا خوره إذ لجأ إلى طلب العون عليهم من أقوى دول العالم الصليبي الحاقدة على دين الله عز وجل، وعلى المؤمنين من عباده . ويجدر بالمؤمنين ألا ينصاعوا إلى ما يراد من وراء تلك الأراجيف بل عليهم أن يثبتوا ، ويُثّبتوا إخوانهم المجاهدين ، وألسنتهم تلهج بالاستغفار من ذنوبهم ، والاعتراف بالتقصير في نصرة دين الله عز وجل،  والإسراف في ذلك، ثم يسألوا الله تعالى بعد ذلك الثبات والنصر لهم ، ليكونوا كمن كانوا قبلهم ممن ذكرهم الله تعالى في محكم تنزيله صابرين محسنين .

اللهم إنا نستغفرك لذنوبنا  ونتوب إليك منها ، ونبرأ إليك من إسرافنا  وتقصيرنا في أمر دينك ، ونسألك الثبات عليه حتى نلقاك ، ونسألك أن تثبت أقدام عبادك المؤمنين المجاهدين في سبيلك بأرض الإسراء والمعراج . اللهم لا تجعل لأعدائهم عليهم سبيلا ، وانصرهم نصرا عزيزا تعز به دينك ، وقد تكالب عليه أعداؤك  من كل حدب وصوب . اللهم لا تخيب رجاءنا فيك بسبب آثامنا وذنوبنا والإسراف في ذلك ، اللهم إنا نضرع إليك بكل اسم سميت به ذاتك المقدسة ، وكل صفة وصفتها بها ألا تخزينا برد أكفنا  الضارعة إليك خائبة . اللهم إن تهلك عصابتك المؤمنة المجاهدة  في أرض الإسراء والمعراج ، فإننا سنزداد ذلة ومهانة بين أمم الأرض ، فلا تجعلنا ربنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1055