( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )

يتكرر في كتاب الله عز وجل ذكر نماذج من قصص تنكيل الكافرين بالمؤمنين في عصور وبيئات مختلفة، حيث يسومونهم سوء العذاب تقتيلا ، وتذبيحا، وتحريقا ... إلى غير ذلك من أنواع العذاب الشدبد الذي لا يطاق ، وهو فوق كل وصف . والسبب وراء ذلك العذاب، إنما هو إيمان المؤمنين بالله تعالى إلها وربا واحدا لا شريك له ، بينما تتعدد آلهة وأرباب الكافرين ، وهي إما ملوك جبارون أو كواكب أو أصنام وأوثان . ومعلوم أن من تتعدد ألهتهم من الكفار، هم أشد الناس عداوة للمؤمنين الموحدين ، لأن التوحيد يسفه معتقداتهم الفاسدة والضّالة ، ويثبت لهم ضلالهم بالحجج الدامغة ، وهو ما يجعلهم يكابرون ، ويعاندون ، ويركبون جهلهم وضلالهم وغرورهم ويتمادون في ذلك ، وعندما تعوزهم الأدلة والبراهين التي  يستدلون بها على صحة ما هم عليه من ضلال ـ  والضلال لا يمكن أن يصح أبدا ـ  يعمدون إلى تصفية المؤمنين جسديا  بشتى أنواع التصفيات.

ويشترك مع الكفار أهل الكتاب من يهود ونصارى ممن حرّفوا ما أنزل إليهم ، وممن جعلوا لله تعالى عما يصفون أبناء شركاءه في الألوهية والربوبية ، كما فضحهم القرآن الكريم، وقد وصفهم بالكفر كغيرهم ممن اتخذوا آلهة وأرباب من دون الله عز وجل كما جاء في قوله تعالى : (( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة )) ،هذا بالنسبة للنصارى أصحاب عقيدة  الثتليث  ، وفي قوله أيضا : (( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا قاتلهم الله أنى يوفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )) ، وههنا يلتقي اليهود والنصارى في ملة  الكفر بإفكهم على الله تعالى مع الوثنيين من الكفار ، والله أعد للجميع عذابا في الآخرة وبئس المصير ،مصداقا لقوله عز من قائل : (( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريئة )) .

ومن نماذج تنكيل الكافرين من أهل الكتاب  بالمؤمنين الموحدين، ما ورد ذكره في سورة البروج ، ويتعلق الأمر بالملك اليهودي ذو نواس الذي كان بنجران في اليمن ، والذي حفر أخدودا، وأضرم فيه النار، وألقى فيها النصارى الموحدين انتقاما منهم لتوحيدهم الله عز وجل دون شركاء، كما كان عليه هو وقومه من شرك بالله تعالى . ولقد أقسم الله تعالى في فاتحة هذه السورة بقسم عظيم، أعقبه بعد ذلك ذكر ما فعل بالمؤمنين الموحدين ،  وما ينتظر ذلك الطاغية وقومه من عذاب مهين في الدنيا والآخرة ، وما ينتظر أمثاله من  الطغاة الكافرين المجرمين في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة.

ولما كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما قضى الله تعالى من عذاب معجل في الدنيا، ومؤجل في الآخرة  لمن حفروا الأخدود ـ وقد جعلهم عبرة للمعتبرين ـ  هو لاحق بكل من يقومون بمثل فعلهم الشنيع  إلى يوم القيامة . ولقد ذكر الله تعالى أن عذاب الحريق الذي كابده المؤمنون الموحدون في الأخدود المسعرة ناره، إنما كان انتقاما منهم بسبب إيمانهم بالله تعالى إلها وربا واحدا لا شريك له مصداقا لقوله تعالى : (( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد )) ،  ففي هذه الآية الكريم، ما يثبت أن المستحق لأن يُعبد وحده  دون شركاء ، ويُحمد لذلك وحده ، وهو ذو العزة  والجلال ، وهو خالق ما في السموات والأرض ، وهو الشاهد على كل شيء. وهذا ما لا يقر به الكفار المشركون من وثنيين ومن أهل الكتاب ، ولهذا يناصبون العداء الشديد للمؤمنين الموحدين في كل زمان ، وفي كل مكان ، وهذا دأبهم إلى قيام الساعة إلا ما شاء الله عز وجل .

مناسبة حديث هذه الجمعة، هو تنبيه المؤمنين إلى ضرورة استحضار  حادثة الأخدود التي هي نموذج من نماذج الفظائع التي ارتكبت في حق المؤمنين الموحدين ماضيا ، وهي اليوم ترتكب في حق المؤمنين الموحدين في قطاع عزة من طرف اليهود المجرمين الذين حرفوا ما أنزل إليهم من ربهم ، واستبدلوا عقيدة التوحيد بالشرك ، وضمّنوا ما حرفوه عبارات العداء والحقد الأسود على المؤمنين الموحدين  مع استباحة دمائهم ، والتحريض على قتلهم ، وقد جعلوا ذلك مما زعموا  كاذبين مفترين أنه يقربهم من الله تعالى ، وأنه من صميم عبادتهم  التي أمرهم بها الله تعالى عما يفترون .

وما أشيه  المجرم نتنياهواليوم بذي نواس مجرم الأمس ، ذلك أن هذا الأخير حفر الأخدود، وأضرم فيه النار لتحريق المؤمنين والموحدين  رجالا ونساء ، والأول حفر العديد من الأخاديد في غزة بالقنابل التي تزن الأطنان ، والتي تلقيها الطائرات الأمريكية، وهي تحرّق الآلاف من الضحايا أطفالا، ونساء، وعجزة ، ومرضى ، والكفار من نصارى ويهود يتفرجون عليهم ، وهم على ما يفعل بهم شهود ، وهم يشمتون بهم شماتة الأعداء تعبيرا عن حقدهم الأسودعل يهم قاتلهم الله .

ولا يجدر بالمؤمنين اليوم  في كل مكان في المعمور ألا يستحضروا  قصة الأخدود، وهي تتكرر اليوم في فلسطين ، وقد تكررت  هناك لأزيد من سبعة عقود مرت ، وهي اليوم أشد مما كانت  عليه ، وقد حُرّق من الضحايا اليوم ما فاق بكثير من حرّقوا من قبل .

ومع جسامة كل تلك الفظائع المروعة ، لا زال كفار النصارى يؤيدون كفار اليهود ، ويشجعونهم على  المزيد منها ، وهو ما جعلهم يتمادون في إجرامهم، وقد قارب ذلك مدة شهر دون أن يتحرك ضمير العالم  الميت كي يضع حدا لجرائم حرب قذرة  يحمي أصحابها الفيتو الأمريكي والأوروبي دون خجل.

ومعلوم أن انتقام اليهود ،ومن يوالونهم من الشعب الفلسطيني المؤمن الموحد إنما هو رفضه تهويد القدس التي قضى الله تعالى في محكم التنزيل أن تكون أرض الإسلام إلى أن يرث سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها ، وهو الذي إرادته نافدة ، ولا راد لها . والتشبث بإسلام المسجد الأقصى، إنما هو تشبث بالإيمان بالله عز وجل ، وتشبث بالتوحيد الذي لا تشوبه شوائب الشرك اليهودي أو النصراني ، كما أن رفض تهويده ، هو رفض للشرك .

ولا شك أن الذين كانوا يثقون في المحتل الصهيوني ، ويبرمون معه معاهدات السلم  ، ومعاهدات التطبيع،  قد سقط في أيديهم ، وها هم قد أدركوا حقيقة ما يُضمره من عداء شديد ، ومن حقد أسود على المؤمنين الموحدين ، وإن أرواح الشهداء الذي قضوا حرقا بالقنابل وتحت ركام بيوتهم  أطفالا، ونساء، وعجزة ،ومرضى ستحاسبهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل على صلتهم بمن نهاهم عن اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين ، وقضى سبحانه أن من يتولاهم يكون منهم مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) صدق الله العظيم .

اللهم إنا نبرأ إليك من الولاء إلى من نهيت عن موالاتهم من يهود ونصارى. اللهم إنا نسألك أن تثبت أقدام المجاهدين المرابطين في أرض الإسراء والمعراج دفاعا عن مسجدك الأقصى ، وأن تسدد رميهم ، وأن ترفع رايتهم ، وتنكس راية عدوك وعدوهم . اللهم لا تجعل لليهود ومن والهم من النصارى عليهم سبيلا . اللهم عجل بهزيمتهم هزيمة نكراء ، لا تقوم لهم بعدها قائمة . اللهم انصر دينك المحمدي ، واجعل نصره بانتصار المجاهدين في غزة، وأكناف بيت المقدس عاجلا قريبا . اللهم امددهم بمدد من عند ، وانصرهم بنصر من عندكم ، وشد عضدهم بجندك من ملائكته المنزلين المسومين  .

 اللهم لا تخزينا في دعاء نتوجه به إليك  ضارعين ،راجين الاستجابة منك ، وقد شق علينا ما نراه من تحريق عبادك المؤمنين ، وقد قلت حيلنا ، وانقطعت بنا سبل نصرتهم  .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: ألعدد 1056