( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم )

من المعلوم أن  كتاب الله عز وجل باعتباره رسالة ختمت بها الرسالات السابقة ، وهي على خلاف هذه الأخيرة موجهة إلى العالمين إلى قيام الساعة ، لا يمكن حصر دلالتها في أسباب نزولها  فقط ، لأن ذلك يجعلها دلالتها منغلقة ومنتهية في الزمن ،بل لا بد من اعتبارها منفتحة ولا نهائية في الزمن حتى يجعل الله تعالى له نهاية .

وما ذكره القرآن الكريم من نماذج بشرية باعتبارمواقفها من الإيمان بالله تعالى ، أو جحوده ،هي نماذج لا محالة  متكررة إلى قيام الساعة، إذ لا يخلو زمن من  مؤمنين ، ومن كفار ومشركين ، ومن منافقين يضمرون كفرا ، ويظهرون إيمانا . ولقد ورد من أخبار هؤلاء المنافقين في الذكر الحكيم ما يمكن اعتباره شبكة تتضمن مواقفهم التي يمكن أن يعرض عليها الناس لمعرفة خلوهم من النفاق أو تلبسهم به .

ومن مواقف المنافقين التي سردها القرآن الكريم ، ما كان منهم يوم غزوة بدر الكبرى حيث روّجوا لما يمكن أن يفل من عزيمة المؤمنين ، وهم يومئذ  قلة وذلة ،  مقبلون على مواجهة عدو يفوقهم عددا وعدة  ، وهو قوله تعالى : (( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم )) ، ففي هذه الآية الكريمة تسجيل لقول المنافقين ، وغيرهم من ضعاف الإيمان الذين وصفهم الله تعالى بمرضى القلوب المعتلة بما يجعلها ضعيفة ، وعلة قلوب هؤلاء  إنما هي ضعف إيمانهم، و ضعف يقينهم بأن النصر إنما   يكون من عند الله عز وجل ، ولا يكون  مرتهنا بكثرة العدة والعدد أو بقلتهما .

ولقد وصف المنافقون المؤمنين في بدر بالغرور ، وسايرهم في ذلك ضعاف الإيمان ،لأن مبلغهم من العلم أن الكثرة الكاثرة غالبة لا محالة القلة القليلة عند المواجهة ، وهي قناعتهم الراسخة ، في حين تنقضها إرادة الله عز وجل إذا شاء حيث يجعل الغلبة للقلة على الكثرة ، وهو ما وقع  بالفعل في بدر ، وما وقع من قبل  لقلة جند طالوت  الغالبة لكثرة جند جالوت ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .

ومعلوم أن الغرور هو شعور ينتاب من يتوهم المنفعة في الضرر، والمؤمنون يوم بدر كانوا أبعد من أن يركبوا مثل هذا الغرور أو يركبهم ، لأنهم كانوا على يقين مما بشرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصر مبين على ما كانوا عليه من قلة عدد وقلة عدة ، وقد صدّقوه دون أن تخامرهم الشكوك ، في حين خامرت مرضى القلوب من ضعاف الإيمان، وقد بث ذلك في نفوسهم ما كان المنافقون يروجونه عنهم لصرفهم عن تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام .

ويعقب الله تعالى على سخرية المنافقين من الفئة المؤمنة المجاهدة ، الصابرة ، والمحتسبة بقوله تعالى  : ((  ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم )) ، ومعلوم أن التوكل هو استسلام ،وتفويض يكون من متوكل  ـ بكسر الكاف ـ على متوكل عليه ـ بفتح الكاف ـ ، ويكون هذا الأخير أعز ، وأقدر، وأقوى على عون ودعم ونصرة المتوكل. ولما كانت العزة للخالق سبحانه وتعالى، وهي منعة ، فإن من يتوكل عليه يمنعه ممن يريد بسوء أو أذى ، وله سبحانه التدبير الحكيم في قلب موازين القوة بحيث تتعطل سنة الغلبة للأقوى والأكثر عددا وعدة ، وتحل محلها سنة غلبة الأضعف الأقل عددا وعدة ، والله فعّال لما يريد لأن المتوكل عليه  مسلح بالتوكل على  خير من يمنعه، وهو يجاهد من أجل إعلاء كلمته لعزته سبحانه وحكمته .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بأن سنة الله تعالى في نصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة ستبقى  سارية المفعول إلى قيام الساعة، خصوصا ونحن نعيش جهاد الفئة المؤمنة القليلة عددا وعدة في غزة ضد عدوها الأكثر عددا وعدة ، و ذلك في ظرف رواج مثل ما كان يروجه المنافقون يوم بدر ،معهم الذين في قلوبهم مرض من ضعاف الإيمان من أن المجاهدين الغزّيين  قد ركبهم غرورهم حين أقدموا على مهاجمة عدوهم  خلف حصونه ، وأن ما يقع من إبادة جماعية لأهل غزة  من العزّل ،هو  بسبب ذلك الغرور ، علما بأن العدو الصهيوني كلما أوجعه المجاهدون الذين لا يقوى على مواجهتهم ، يجن جنونه ويصب جام غضبه على العزل ، انتقاما مما يفعله به من هم غزًى ، خلافا لأعراف وأخلاق النزال بين المتحاربين الشجعان، وهو ما وصف به الله تعالى أسلاف اليهود من جبن، وخور، وذلة في قوله عز من قائل : (( لا يقاتلونكم  إلا في قرى محصّنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )) ، وفي وقوله تعلى  أيضا : ((  لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله و بحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )) ، وكذلك كان حال يهود خيبر ، وبني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريضة  زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وواضح أن حرب الصهاينة اليوم في غزة، لم تخرج عما أخبر به الله تعالى ، فهم يحاربون المجاهدين من وراء حصون، وجدر ، وقبب فولاذية ، وبتغطية طيران وبحرية أمريكيين ، وحاملات طائرات ، وأقمار صناعية  ، وجاسوسية ... وما لا يحصى من وسائل  مختلفة ،علم الناس منها ما علموا ، وغاب أو غيّب عنهم ما غيّب ، ومع ذلك  الذلة والخسة  ملازمة لهم ، وقد عابت عنهم شعوب المعمور قاطبة  قذارة حربهم التي يذهب ضحيتها صبية ابرياء ونسوان وعجزة ، ومرضى ، وكل ذلك ينفسون به  عما يجدونه من بأس شديد في نزال  مجاهدين شجعان يديرون حربا مقدسة، وأخلاقية  من أجل استقلال وطنهم  ضد غزاة معتدين ، وليست  حرب الكرام كحرب اللئام .

والمؤسف أن فينا من يرضى  في هذا الزمان لنفسه أن يردد مقولة المنافقين ، ومقولة مرضى القلوب ، فيصفون المجاهدين بالغرور،  بل منهم من يصفهم بالتهور والطيش ، وهناك من  يذهب بعيدا  في وصفهم، وهو يحاكي وصف عدوهم لهم بأنهم مخربون وإرهابيون.  وكل هؤلاء يرددون ما حكاه القرآن الكريم حين يتحدثون عن شهداء غزة كما جاء  في قوله تعالى : ((  يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير )) . ألا  يكفي هذا  القول من رب العزة جل جلاله الذين يشككون في نصره الموعود للمجاهدين في سبيل نصرة لدينه ، ودفاعا عن أولى القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين ؟

اللهم إنا نبرأ إليك من أن نحاكي قول الكافرين ، أو قول المنافقين ، أو قول الذين في قلوبهم مرض ، واصفين مجاهدينا الأشاوس في غزة بالغرور أو بأي وصف يشينهم .

اللهم ثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وارفع رايتهم عالية خفاقة ، واخذل عدوهم ، ونكس رايته ،وراية من يوالونه من الكافرين والمنافقين  . اللهم احم عبادك المجاهدين، وقهم غدر عدوهم  من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم . اللهم أيدهم بجندك ، والق بذلك الرعب في قلوب أعدائك وأعدائهم . اللهم أرنا في الصهاينة ومن والهم ما فعلت بجالوت وجنوده ، وبأبي جهل وجنده ، اللهم احصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا . اللهم إن قصر بنا ما يجعل دعاءنا مستجابا عندك ، فاقبل دعاء الصالحين منا ، ولا تخيب رجاءهم فيك ، فإن قلوبهم وقلوبنا مشدودة إلى إخواننا وأحبتنا، وقد بلغت الحناجر ، ـ وما نظن بك إلا ما يليق بجلالك ، وعظمتك ـ، وقد جمع لهم أعداؤك العدد والعدة  أحزابا، واستضعفوهم ، وأنت جبار السماوات والأرض الذي آذنت بحرب من يعادي لك أولياءك، وأنت العزيز الذي لا يضام من يستجير بك . اللهم عجل بنصر قريب لهم يشفي صدورهم ، وصدورنا ، وقد ضاقت بهم  و بنا الدنيا ،وصبيتهم يقتّلون ، وبيوتهم تدمر فوق رؤوسهم ، وقد منعوا الطعام، والشراب، والدواء ، والوقود ... وأنت أعلم بحالهم منا ، وأنت أرحم الراحمين ، فلا تكلهم ربنا لعدوهم ، ولا لمن خذلوهم ممن وجبت عليهم النصرة ، وتقاعسوا ، وتخلفوا . آمين آمين يا رب العالمين  .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1057