( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )

من المعلوم أن ذكر الله عز وجل أهل الكتاب، واليهود منهم تحديدا ثم النصارى  في رسالته الخاتمة المنزلة على خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، التي  تهم البشرية جمعاء من بعده، وتشريعها يلزمها إلى يوم الدين، يقتضي الوقوف عند دلالة هذا الذكر الذي ليس مجرد سرد أخبارهؤلاء ، بل هو تنبيه وتحذير منهم ،وقد حرفوا ما أنزل الله تعالى عليهم ، وبلغه لهم رسلهم وأنبياؤهم تحريفا حاد بهم عن صراطه المستقيم ، وجعلهم مفسدين في الأرض فسادا يضر بالعالمين . ولقد مضى زمن طويل على أهل الكتاب ، وهم على حالهم من الضلال المترتب عما ألحقوه من تحريف بما أنزل عليهم من حق مبين . ولمّا ختم الله تعالى الرسالات بالرسالة الخاتمة التي فضحت انحرافهم عما تعبدهم به سبحانه و تعالى ، وأظهرت لهم الحق جليا ، واجهوها  بالتكذيب ، أضمروا العداء حسدا من عند أنفسهم  لمن نزّلت عليه  صلى الله وسلم وبارك عليه ، ولمن أنزلت إليهم من المؤمنين  ، وهو ما كشفه الله تعالى في قوله عز من قائل : (( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )) ، والمقصودون بهذه الآية الكريمة كما جاء في كتب التفسير هم اليهود تحديدا، أحبارهم ، وعوامهم المتأثرون بما يلقنه لهم أولئك الأحبار من انحراف ، و تنكب للحق المبين الذي كانوا يعرفونه حق المعرفة . ولمّا كان هؤلاء على ضلال مبين كشفته الرسالة الخاتمة المصدقة لما بين يديها والمهيمنة عليه ، فإنهم كرهوا أن يكون المؤمنون بها على الحق والهدى  ، وهم على باطل وضلال حسدا من عند أنفسهم ، وهي أمنيتهم ورغبتهم المتأصلة فيهم ، والتي لا تزول عنهم إلى قيام الساعة . وبيان هذه الرغبة أن يَردُّوا بكيد  ماكر خبيث المؤمنين إلى  كفر وشرك نجاهم الله تعالى منهما ،وذلك لتضل السيطرة والهيمنة لهم ، وهذه رغبة منهم لطمس معالم الحق الذي جاءت به الرسالة الخاتمة ، الشيء الذي يفسد عليهم مشاريعهم ومصالحهم الدنيوية وأهواءهم حين يأخذ المؤمنون بشريعة هذه الرسالة القيمة  .  معلوم أن ورد أهل الكتاب  المؤمنين  كفّارا بعد إيمانهم، هو استمرار لتلك المصالح  والمشاريع والأهواء، بينما إيمانهم يكون نسفا لها  من أساسها .

ومعلوم أن هذا الذي يودّه كثير من أهل الكتاب خصوصا اليهود منهم  للمؤمنين من كفر بعد إيمانهم ، هي  حال تلازمهم إلى قيام الساعة ، ولن ينجو المؤمنون في كل العصور والأمصار منها ، وقد سجل ما مضى من تاريخ البشرية ، وما زال يسجل إلى يوم الناس هذا، ما يؤكد ذلك . ولقد وقف بعض المفسرين عند قوله تعالى حين  وصف دافع الحسد المتأصل في اليهود  (( حسدا من عند أنفسهم ))، فقالوا إن لفظة " عند" تفيد استقرار تلك الحال فيهم، وتلبّسهم بها ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وأنها ليست خاصة بمن نزلت فيهم زمن نزول الوحي ، وهم يهود بنو النضير .  

ومعلوم أن رغبة أهل الكتاب خصوصا اليهود في رد المؤمنين كفّارا  بعد إيمانهم ، تأخذ أشكالا وأساليب   خبيثة مختلفة باختلاف العصور ، وما ينتشر فيها من ثقافات وأفكار وعادات ... ، ولا يقتصر ما يريده هؤلاء بالمؤمنين  من كيد لصدهم عن إيمانهم على مجرد الوقوف عن حد ما يودون ، بل  يتخطون ذلك إلى ترجمته إلى أفعال ، لهذا نجدهم ينظّرون لذلك في شتى المجالات المعرفية ،  والفكرية ، والفلسفية ، ذلك أنه وراء كل فكر فاسد مفسد صارف عن الحق الذي جاءت به الرسالة الخاتمة إلا ووراءه  يهود . ولقد أضل ما سوقوه من أفكار وفلسفات كثيرا من المؤمنين ،الذي صار منهم من جنّد لينوب عنهم في تسويقها على أوسع نطاق في بلاد الإسلام ، وقد صار هؤلاء المجندون من المحسوبين على الإسلام أشد خطرا عليه، وعلى المؤمنين ، وهذا شكل من أشكال ما يوده أهل الكتاب ، وما يترجمونه إلى  عمل وإجراء .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تنبيه المؤمنين إلى ما يوده أهل الكتاب يهود ونصارى من صدهم عن إيمانهم أو عن مرجعيتهم الإسلامية  ، وعن هويتهم ، وقد تطورت وسائلهم  في ذلك بتطور وسائل التواصل في هذا الزمان وقد صيّرت العالم عبارة قرية صغيرة ، يبخرها درهم بخورعلى حد قول المثل المغربي . وقد لا يصدّق البعض منا  خطر أهل الكتاب على ديننا ،ممن هم غافلون عن  الرجوع إلى كتاب ربهم الذي جاء فيه قوله:  (( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم كفّارا من بعد إيمانكم  حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )) ، ولكنهم لو تأملوا ما يعج به عالم اليوم مما يسوقوه هؤلاء من أساليب التضليل المختلفة ،ومن مفاسد صارخة ، وهي  تستهدف المؤمنين تحديدا وتخصيصا  لصرفهم عن إيمانهم وعن دينهم، ولطمس هويتهم الإسلامية، لأدركوا حقيقة خطورتهم ، وحقيقة  ما نبهنا إليه الله عز وجل.

ألم يسوقوا  لنا العلمانية ، وهي كفر بواح  لا غبار عليه لتكون بديلا  لنا عن ديننا ،وقد صار فينا من ينادي بها جهارا نهارا ؟ أليست أحوالنا الشخصية اليوم  ـ على سبيل الذكر لا الحصرـ  مستهدفة  حيث صار فينا من يطالب بتعديلها ، وكأنها معوجة ومنحرفة ، بالرغم من كمال الدين الذي تصدرعنه ، وذلك عن طريق الدعوة إلى بديل عنها مصدره ، ومرجعيته العلمانية ، وهو بديل  يسوق إعلاميا  على أوسع نطاق ،  وتضفي عليه هالة من الدعاية التي تستهوي المستلبين المستهدف تدينهم ، و قد صدق عليهم ظن كثير من أهل الكتاب ، وما يودّونه من ردهم كفّارا بعد إيمانهم ؟

ولو فتحنا الباب مشرعا على كل ما يعتورنا مما دسه لنا أهل الكتاب في كل مجالات الحياة لصرفنا عن إيماننا ، وعن ديننا ، وعن هويتنا  الإسلامية ،لطال بنا الحديث ، وهو ما صار معروفا عند من حفظ الله تعالى عليهم إيمانهم ، وهو مما ينبه إليه أهل العلم  في كل المحافل ، وعبر شتى المنابر الإعلامية .

وأخطر ما يهدد إيماننا وهويتنا الإسلامية،  هو انسياق بعضنا مع  قناعات ومقولات من يودون ردنا كفارا بعد إيماننا حسدا من عند أنفسهم . ومن ذلك  إشاعة التشكيك في كل متشبث بالمرجعية والهوية الإسلاميتين ، ومحاولة شيطنته ، والتشكيك في مواقفه المنسجمة معهما . وخير دليل على ذلك أن يطلق البعض ألسنتهم بالسوء في رجال المقاومة بقطاع غزة ، واتهام قياداتهم بتهم ملفقة وبهتان  ، وهو ما يوده العدو الصهيوني العنصري ، والمتصهينون من الصليبيين لتشتيت صف المؤمنين ، وركوب المفتونين  منههم، لينوبوا عنهم في مهمة  تجريح وتجريم الصادقين في جهادهم من أجل تحرير القدس الشريف ، وسائر بلاد فلسطين . والمؤسف أن بعض هؤلاء المفتونين يظنون بأنفسهم الإيمان ،والالتزام بالهوية الإسلامية ، وقد سيقوا سوق النعم ، وانساقوا وراء ما يوده الصهاينة والصليبيون بالمؤمنين لردهم كفّارا بعد إيماننا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وكفى بمن يدعي الإيمان إثما مبينا أن يبخس جهاد المجاهدين في سبيل الله بأرض الإسراء والمعراج ، ويتقول عليهم ، وقالته محض سوء لا مبرر له ،  ولو  أنه أمسك لسانه لكان  خيرا له وأزكى . وعلى من استزله الشيطان بشيء من ذلك أن يتوب إلى ربه توبة نصوحا، وإلا فإنه  يصدق عليه قول  تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) .صدق الله العظيم .

اللهم إنا نبرأ إليك من كل من يؤذي بقول أو بسوء ظن أولياءك المجاهدين في سبيلك من أجل إعلاء كلمتك في أرض الإسراء والمعراج ، ومن أجل تطهير مسجدك الأقصى من دنس الصهاينة المجرمين . اللهم ثبت أقدام المجاهدين في سبيلك ، وأفرغ عليهم صبرا عند لقاء عدوك وعدوهم ، وسدد رميهم ، وأمددهم بمددك الموعود ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم ، ولا تجعل لعدوهم عليهم سبيلا. اللهم اطمس على عيون أعدائهم ، والق الرعب في قلوبهم ، واجعل كل كيد يكيدونه في نحورهم ، واجعل اقتحامهم حمى المؤمنين في غزة وغيرها من أرض فلسطين  وبالا عليهم، وحسرة في نفوسهم . اللهم أنت المعول عليك في إطفاء نار الحرب التي أوقدها أعداء دينك ، وأنت على ذلك قدير  ، وبالاستجابة جدير ، وأنت نعم المولى ، ونعم النصير ، ولا حول ولا قوة إلا بك يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله  وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1062