حيرة الإنسان المؤمن في أمر الخشوع لله تعالى

طلع لي على شاشة المحمول فيديو للمرحوم الأستاذ الدكتور السيد فريد الأنصاري تغمده الله بواسع رحمته ، وأسكنه فسيح جنانه،  تحدث فيه عن الخشوع في الصلوات . وخلاصة ما ذكر عن  هذا الخشوع أنه يحصل بالطمأنينة فيها قياما، وركوعا، وسجودا بالجوارح ، تمليها عليها القلوب ، أو تمليها الروح على الجسد.

وحرك لدي قوله هذا  التفكير في موضوع الخشوع الذي يشغلني كثيرا ، كما يشغل كل أهل الإيمان ، وهم في انشغالهم به بين من يعتقدون أنهم فاقدون له ، وبين من يعتقدون أنهم  يصيبون منه الشيء القليل ، وبين المنصرفين عن الحديث عنه إما لاعتقادهم أن متمكنون منه ، أو لاعتقادهم تعذر إدراكه ، وهذا ما دفعني إلى لكتابة في هذا الموضوع، عسى أن أثير في كل من يشغله مثلي  مزيدا من الانشغال به ، وربما مكن ذلك  اليائسين من إدراكه  تجاوز عقدة  يأسهم ، و ربما يزيد من يجدون منه شيئا أكثر مما يجدون ، ويعزز حظوظهم منه بالقدر الذي تطيقه النفس البشرية المجبولة على الضعف  .

وفي البداية ،لا بد من الإشارة إلى ما يحيل عليه لفظ " الخشوع " من دلالات في اللسان العربي ، ذلك أنه يعني الخضوع ، والركون ، والخشية، والخوف ، والسكون أو الاستكان ، والانكسار ، والتذلل ، والتضرع أو الضراعة  ، والتطامن أو الاطمئنان ، والانكفاف أو الكف ، والغض .

ويرتبط الخشوع بنفس الإنسان أو بروحه ، وبجسده بما فيه من جوارح ، حيث يكون منطلقه كشعور وإحساس من النفس أو الروح  أو القلب ليس باعتباره مضغة صنوبرية، بل باعتبار أداة إدراك وإحساس ، ثم يعم  بعد ذلك كل الجسد بمختلف جوارحه .

وغالبا ما يرتبط الخشوع عند عموم المؤمنين بالصلوات أو بسماع الذكر الحكيم ، أو بسماع الوعظ والإرشاد  المؤثرين، وقلما يكون حالة ملازمة للإنسان في كل أحواله  المعيشية ، أو في بعضها .

ولقد استقصى بعضهم معاني الخشوع في كتاب الله عز وجل ، فذهبوا إلى أنها أربعة وهي :

1 ـ التصديق والتسليم : واستشهدوا على ذلك بقول الله تعالى : (( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين )) .

2 ـ التواضع : واستشهدوا عليه بقوله تعالى : (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )) .

3 ـ التذلل  : واستشهدوا عليه بقوله تعالى : (( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون )) .

4 ـ سكون الجوارح : (( وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا )) .

ويبدو أن هذه المعاني هي جماع الخشوع في الصلوات أساسا ، وفي غيرها من الأحوال عبادات ومعاملات التي يمر بها الإنسان المؤمن في حياته .

ولقد نسب إلى حذيفة بن اليمان  رضي الله عنه أنه قال : " أول ما تفقدون في دينكم الخشوع ، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة ، فلا ترى فيهم خاشعا " ، فإذا كان  هذا حال الإيمان زمن خذيفة ، فكيف حاله في الأزمنة التالية ، وفي زماننا هذا ؟

وذكروا أن عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: كان خلقه القرآن ، ثم تلت قول الله تعالى : (( قد أفلح المؤمنون ... )) الآية  ، والتي قال عنها العلامة المرحوم الطاهر بن عاشور : " قد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية، لأنها أتت على أعسر ما تُراض به النفس من أعمال القلب والجوارح " ، ولهذا كانت هي  خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.  ولقد ذكر الله تعالى في مطلع سورة المؤمنين ما كان سائدا في الجاهلية من لغو الكلام ، وهم أهل أشعار وبلاغة وبيان لم تكن كلها جادة ، بل كان أكثرها لغوا، وكانت صلاتهم عند البيت العتيق مكاء ، وتصدية ، وكانوا لا ينفقون إنفاق التعبد لله تعالى ، بل كانوا ينفقون عصبية أو طلبا للشهرة ... وكان البغاء بكل أنواعه  شائعا فيهم ، وكانوا لا يرعون العهود والأمانات إلا القليل منهم  حتى أنهم ضربوا للوفاء بالشاعر السموأل . وأراد الله تعالى تصحيح هذا  الوضع الجاهلي  المختل ، واستبداله بوضع إسلامي على النقيض منه ،  ويكون للخشوع لله تعالى فيه حظ وافر في صلوات تصلى تكون مناجاة له  ، وفي  حفظ  للألسنة من اللغو و في حفظ الفروج ، و في حفظ العهود والآمانات ، وكل هذه لا تخلو من أن يكون الخشوع هو الوازع فيها أو عليها  .  

وعن الخشوع يقول العلامة ابن عاشور أيضا : " المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غير مستحضر خشوعا لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة ، فإذا تخلق بالخشوع اشتدت مراقبته ربه ، فامتثل واجتنب ، فهذان من أعمال القلب " .

والخشوع شغل الأقدمين والمحدثين ، خصوصا خشوع الصلوات ، وقد ذكر المرحوم الأنصاري أن الأجواء تتهيأ له في صلوات الليل حين  تخلو أذهان الناس من مشاغل الدنيا وهمومها التي تشغلهم في النهار وهم يصلون ، لهذا أثنى الله  تعالى على صلاة الليل ، وما يتلى فيه من ذكر حكيم  .

والشغل الشاغل عند المؤمنين في أمر خشوع الصلوات ، هو الخوف من فقدانه كليا ، أو من حضوره القليل ، أو من غيابه الكثير . وغالبا ما يتأسف الناس ويتألمون عن تقصيرهم في واجب الخشوع فيها، لأن العقل المتداعية أفكاره لا يتوقف طرفة عين أو أقل من ذلك في يقظة أو منام  أيضا حين تنوب الأحلام والرؤى عن الأفكار التي تنقدح الواحدة تلو الأخرى بما تنقله الحواس للدماغ  من مؤثرات ، ولا يستطيع أن ينصرف عنها ،وهو  يحرص على الخشوع في صلواته ، ويكابد ويعاني  بسبب ذلك ، خصوصا وأن الشيطان الجاري منه مجرى الدم ،يقدح في الأذهان أيضا ما لا ينقدح  فيها من مصدر غيره.

ولقد كنا ذات يوم في بيت عزاء، فشكا لي وللأخ الأستاذ الدكتور محمدين المومني  أحدهم صراعه مع الوساوس في صلاته ، وحرمانه من الخشوع ، فأحلته على الأخ المومني ، فصدمته شكوى الرجل ،  ولم يجبه ، فأوعز إلي أن أجيبه بما يفتح الله عز وجل ، فألقى الله في ذهني أن أساله هل حالة الشرود في صلاته لا تنفك عنه من تكبيرة الإحرام إلى السلام ، فأجاب بأنها تنتابه ثم تنجلي عنه ، فقلت له إنك تصيب حظك من الخشوع حين تنجلى عنك . ومعلوم أن الشيطان الرجيم إنما يكثر الجلب بخيله ورجله على الإنسان وهو في صلاته ، فيشغله ، ويلهيه بماله وولده  وكل مشاغل الدنيا ، وربما  شغله باللهو وما شابهه ، ولا يقيه منه إلا الخشوع كما قال أحدهم : " من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان " .

ولما كان الخشوع حالة نفسية  ذاتية ، فإن الناس  مختلفون ومتفاوتون في الإحساس بها، ذلك أن بعضهم يركز في صلواته على خشوع الجوارح غير المسبوق بخشوع القلوب ، وذلك بالحرص على اطمئنان في قيامه ،وركوعه ،وسجوده ، علما بأن خشوع الجوارح قد يكون متكلفا عند بعض من لا يسلمون من رياء ، بينما يحرص البعض على كتمان خشوعهم مخافة الوقوع في  هذا الرياء . ومن الناس من يذهب بعيدا في التعبير عن خشوعه حيث يدعي  حصول مشاهدات وكرامات له، وهو في حالة خشوع ، ويحدث هذا خصيصا عند أصحاب الطرق الصوفية الذين يصدرون عما يسمونه أذواقا مما لا يعرفه عموم المسلمين على حد زعمهم .

وخلاصة القول أن الخشوع سواء حصل للمؤمنين في صلواتهم ، أو لازمهم في كل أحوالهمامعيشية  ، إنما هو منة من الله تعالى لمن يصدقون في نية الاجتهاد الجاد في الخشوع ، وتكون المنة في شكل هبات تحسها القلوب ، ويسري أثرها في الجوارح من قبيل قشعريرة الجلد ، ودمع العين ، وأحاسيس المهابة، والمخافة ،والوجل مع ملازمة استحضار المعية الإلهية في كل الأحوال ، وهو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالإحسان، وهو أن يعبد المؤمن الله تعالى كأنه يراه ، وإن لم يكن يراه ،  ومن كان هذا شأنه في تدينه عبادة ومعاملة ، فلن يغيب عنه الخشوع أبدا . والله ورسوله أعلم . 

وسوم: العدد 1069