أصحاب الأخدود... عبر ودروس 1-3

أصحاب الأخدود... عبر ودروس

طارق مصطفى حميدة

( الحلقة 1)

أورد الإمام مسلم حديث أصحاب الأخدود في كتاب الزهد، وللحديث روايات أخرى عند غير مسلم[1]، لكن تلك الروايات دون رواية مسلم في الصحة وكذلك في اللغة وتماسك النص.

وقد تناول الحديث/ القصة، غير واحد من القدماء والمعاصرين، وكان من أحسنها ما كتبه الأستاذ رفاعي سرور في كتابه( أصحاب الأخدود)، وكذلك ما كتبه أستاذنا الدكتور محمد أبو فارس في كتابه: ( الابتلاء والمحن واثره في الدعوات )، وكان الأديب العراقي داود سليمان العبيدي قد بنى رواية جميلة على حديث أصحاب الأخدود سماها: ( فتاة الجزيرة )، جعلها في بضع مئات من الصفحات.

وقد شاء الله تعالى أن يهتم كاتب هذه السطور بقصة أصحاب الأخدود منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، وكتب وريقات عن الموضوع بعثها إلى إحدى المجلات ولم تنشر، كما وألقى عدة محاضرات خلال الفترة السابقة، حتى قدر الله أن يعود إلى الكتابة والنشر من جديد.

ومع أن هذه السطور معنية بالأساس بشرح الحديث الشريف، لكنها تعرج أحياناً على سورة البروج، ولعل الرغبة في سرعة الإنجاز بعد طول التأجيل والتسويف والمماطلة، قد حالت دون الجمع بين تفسير السورة الكريمة وشرح الحديث والربط بينهما، ولعل الله تعالى يعين من أجل التتميم والتكميل، والكاتب يقر بأنه أفاد كثيراً من قدامى العلماء ومعاصريهم، لكنه ضمّن هذه السطور الكثير مما فتح الله عليه، وهو بفضل الله كثير، وحيث إن وحي الله تعالى لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، فإن الباب سيظل مفتوحاً لكل من ينظر في الكتاب والسنة، فيفتح الله عليه.

أورد الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد: باب قصة اصحاب الاخدود والساحر والراهب والغلام:

حدثنا هداب بن خالد. حدثنا حماد بن سلمة. حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن ابي ليلى، عن صهيب؛ ' ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كان ملك فيمن كان قبلكم. وكان له ساحر. فلما كبر قال للملك: اني قد كبرت. فابعث الي غلاما اعلمه السحر. فبعث اليه غلاما يعلمه. فكان في طريقه، اذا سلك، راهب. فقعد اليه وسمع كلامه. فاعجبه. فكان اذا اتى الساحر مر بالراهب وقعد اليه. فاذا اتى الساحر ضربه. فشكا ذلك الى الراهب. فقال: اذا خشيت الساحر فقل: حبسني اهلي. واذا خشيت اهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك اذ اتى على دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم اعلم الساحر افضل ام الراهب افضل؟ فاخذ حجرا فقال: اللهم! ان كان امر الراهب احب اليك من امر الساحر فاقتل هذه الدابة. حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس. فاتى الراهب فاخبره. فقال له الراهب: اي بني! انت، اليوم، افضل مني. قد بلغ من امرك ما ارى. وانك ستبتلى. فان ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص ويداوي الناس من سائر الادواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي. فاتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك اجمع، ان انت شفيتني. فقال: اني لا اشفي احدا. انما يشفي الله. فان انت امنت بالله دعوت الله فشفاك. فامن بالله. فشفاه الله. فاتى الملك فجلس اليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فاخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجئ بالغلام. فقال له الملك: اي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الاكمه والابرص وتفعل وتفعل. فقال: اني لا اشفي احدا. انما يشفي الله. فاخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فابى. فدعا بالمئشار. فوضع المئشار على مفرق راسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فابى. فوضع المئشار في مفرق راسه. فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فابى. فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به الى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل. فاذا بلغتم ذروته، فان رجع عن دينه، والا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر. فان رجع عن دينه والا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت. فانكفات بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي الى الملك. فقال له الملك: ما فعل اصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: انك لست بقاتلي حتى تفعل ما امرك به. قال: وماهو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس. ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني. فانك اذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد. وصلبه على جذع. ثم اخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله، رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه في موضع السهم. فمات. فقال الناس: امنا برب الغلام. امنا برب الغلام. امنا برب الغلام. فاتى الملك فقيل له: ارايت ما كنت تحذر؟ قد، والله! نزل بك حذرك. قد امن الناس فامر بالاخدود في افواه السكك فخدت. واضرم النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها. او قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امراة ومعها صبي لها فتقاعست ان تقع فيها. فقال لها الغلام: يا امه! اصبري. فانك على الحق".

****************

[1]   - أخرجه مسلم في (الزهد والرقائق), والترمذي في التفسير، والنسائي في التفسير أيضاً ، وهو عند أحمد.

( الحلقة 2) ملك ... وساحر في مواجهة الدعوة

(كان ملك فيمن كان قبلكم) .. يفتح الستار فإذا القارئ أو السامع أمام ملك، ذلك أن الذين كانوا يواجهون الأنبياء ودعاة التوحيد هم أصحاب الزعامة والرياسة، لأنهم استعبدوا الناس وظلموهم واستعلوا عليهم وأكلوا حقوقهم، فكان من الطبيعي أن يكون هؤلاء أول من يحمل، بل ويقود، لواء الحرب ضد الدين.

وفي القرآن تكاد لا تُذكر قصة نبي إلا وفيها أهل الإيمان يواجههم الملأ – أي الزعماء الذين يملأون عيون الناس لمكانتهم وغناهم- كما نرى في قصة نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام، وفي قصة موسى عليه السلام، نرى فرعون وملأه يتصدرون مشهد الحرب ضد دعوة التوحيد.

وإذا لاحظنا عبارة ( فيمن كان قبلكم)، أي أن ما يقصه الرسول عليه الصلاة والسلام ليس سوى عينة تمثيلية من بين عشرات وربما المئات أو الألوف، ما يعني أن ما تتعرضون له من البلاء والأذى من كبراء قريش ليس جديداً وليس خاصاً بكم، بل هو سنة ربانية جرت على كل المؤمنين قبلكم وها هو الدور يأتي عليكم؛ فالذين كانوا قبلكم واجههم مثل الذي واجهتم، أو لنقل، إنكم تواجهون مثل الذي واجههم، لا بل إن الذي تواجهونه ليس بشيء إذا ما قورن بالذي واجهوه.

لقد " امتلأ الوحيُ بالقَصص التاريخي؛ لتكونَ كلُّ قصَّة جسرًا لهم عبر الزمان يأتيهم منه الأُنس المطمئِنُ لقلوبهم، والخبرة الضابطة لحرَكتِهم، والحق المبطل لتحريف عدوِّهم، والذِّكرَى المثبتة لهم، والموعظة التي تحدوهم، حتى المقام المحمدي نفْسه كان بحاجةٍ إلى هذا التثبيت؛ ﴿ وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]"[1].

(وكان له ساحر) .. له .. أي مِلك له، فالساحر ملك للملك ويعمل لأجله، والسحر في خدمة المُلك لتثبيت نظام الملك، "ولم يكن السحر مجرد ظاهرة موجودة في المجتمع بل إنه اتجاه يحكم هذا المجتمع وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع فلابد أنه واقع فاسد قائم بالظلم ومحكوم بالهوى"،ومهمة الساحر، كم يتابع الشيخ رفاعي سرور: "ألا يكون في المجتمع قوة عاقلة أو عقل قوي"[2].

و "السحر ـ كما يقول الدكتور عمر الأشقر –عالم عجيب، تختلط فيه الحقيقة بالخرافة، والعلم بالشعوذة، كما تختلط فيه الدوافع والبواعث، والغايات بالأهداف.

وهو عالم ظاهره جميل خلاب، يفتن قلوب البسطاء، ويخدع السذج والرعاع، وباطنه قذر عفن، يتجافى عنه أولوا الألباب، وينأى عنه أصحاب الفطر السليمة، والقلوب المستنيرة ". (عالم السحر والشعوذة، 1989).

ولعل أول ما يلاحظه قارئ القرآن الكريم، هو ذلك الارتباط الوثيق بين السحر والفرعون ، واجتماعهما معاً في حرب الدين، بل إن السحرة أنفسهم يعلنون بأن فرعون قد ( أكرههم ) على السحر منذ زمن بعيد سابق ليوم المبارزة مع موسى، وهو ما عبروا عنه بالقول ( إنا آمنا بربنا ليغفر خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ) إذ يبدو أن الفرعون كان ينتقي الفتيان الأذكياء ويأخذهم من أهاليهم ويدفعهم إلى من يعلمهم السحر ... ثم يفرقهم في المدائن ليقوموا بما يلزم لتثبيت حكم الفرعون... وقد لاحظنا كيف أشار الملأ على فرعون أن يبعث في " المدائن " حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم... ما يؤكد التلازم الوثيق بين السحر والملك. والملاحظة الثانية أن الشياطين هم الذين يتولون تعليم الناس السحر، ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)، وبالتالي فالسحر وسوسة شيطانية، وكيد شرير، يستهدف أول ما يستهدف حرف الناس عن الصراط السوي، ودعم حكم الفرعون في محاربة التوحيد، والشيطان يوسوس والفرعون يتولى مهمة إكراه الناس على الكفر.

وإذا استعرضنا أنشطة وأعمال السحرة في تثبيت حكم الفرعون وحرب الدين نلاحظ الأمور الآتية:

أولاً: الإلهاء والتخدير

ذلك أن حكم الفرعون يتسبب في ظلم الناس وهضم حقوقهم وانتهاك كرامتهم... فيقوم السحرة بأعمالهم وحركاتهم العجيبة والغريبة، والتي تعتمد خفة الحركة وخداع البصر، فيشغلون الناس عن التفكير في واقعهم الأليم وتجعلهم يعيشون في غيبوبة تنسيهم آلامهم وتقعدهم عن العمل للتغيير.

ثانياً: الخداع وقلب الحقائق

إن السحرة في الواقع لا يغيرون حقائق الأشياء وإنما هم يخيلون للناس أنها تغيرت، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في أكثر من موضع في مثل قوله تعالى: ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) وقوله أيضا: ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس ). إن أقرب تشبيه لدور السحرة في واقعنا المعاصر هو ما تقوم به الكثير من وسائل الإعلام في قلب الحقائق وتزيفها وإظهار الحق باطلاً والباطل حقاً، والهزائم انتصارات، والجهاد إرهاباً، والاستسلام والتفريط سلاماً، والظلم عدلاً، والاستعمار تنويراً، والدين تطرفاًَ، والمجون فناً، والإلحاد فكراً.

ثالثاً: تخويف الجماهير

إن حبل الكذب قصير، ومهما نشط السحرة القدماء أو المعاصرون في تزييف الحقائق فإن الواقع أنصع حجة وأقوى بياناً من سحر البيان، وإن عمق الجراحات البدنية والنفسية والاقتصادية والسياسية لأقوى من كل عمليات التخدير والإشغال والإلهاء.

ولذلك فان من لم يقنعه الزيف ولم تسكته جرعات المورفين، يحتاج إلى الإرهاب والتخويف كيلا تسول له نفسه القيام بأي عمل ضد الفراعنة... وقد لاحظنا أن عمل السحرة اشتمل على " إرهاب وتخويف الحاضرين "... يقول تعالى: ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم ) أي استدعوا مشاعر الرهبة والخوف عندهم، حتى إن موسى عليه السلام تأثر بهذا المشهد: ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ).

رابعاً: تفتيت الأسرة

جاء في سورة البقرة أن السحرة يتعلمون ( ما يفرقون به بين المرء وزوجه )، و الحقيقة أن ذكر هذا الأمر دون سواه، يبرز خطورته الشديدة حتى لكأنه ينبه إلى أن باقي الأمور التي يتعلمها السحرة بالمقارنة مع التفريق بين المرء وزوجه لا شيء.

وقد جاء في الحديث أن إبليس يبعث سراياه من الشياطين ليُضلوا بني آدم ثم يعودون إليه ليفتخروا أمامه كل بما صنع، فلا يرى لأحدهم إنجازاً على الرغم من كبر إفسادهم وإجرامهم... حتى يأتيه من يقول إنه فرق بين زوجين، فيقول له: نعم أنت، ويدنيه.

وإذا ما جرى التفريق بين الزوجين فقد تفتت الأسرة، وما دامت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع فإن تفككها يعني بالضرورة تفكك هذا المجتمع وتفتته... وهذا ما يسعى إليه الفرعون الذي يريد المجتمع متفتتاً ليسهل عليه القيادة، وشعار الفراعنة، أجنبيهم ووطنيهم على السواء: ( فرق تسد )، وقد حكى القرآن عن فرعون أنه: ( علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً ). وما تقوم به الكثير من المؤسسات والدوائر والمنظمات والمؤتمرات، في أيامنا هذه لتفتيت الأسرة وتهديم بنيانها وتقويض أركانها، لا يخفى على ذي عينين.

خامساً: الإخراج من الأرض

لقد كرر السحرة وآل فرعون عدة مرات، اتهامهم لموسى وأخيه عليهما السلام بأنهما يريدان: "إخراجهم من الأرض بسحرهما" ، إلى الحد الذي يستدعي الدهشة ويسترعي الانتباه: ( إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما )، ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ). فمن جهة يتبين القلق الشديد الذي يساور الفراعنة من أن الدعوة جاءت لتزلزل أركانهم وتقلب سلطانهم وتجعل الأرض تميد من تحتهم، ومن جهة أخرى فإنها تعكس ما يقوم به الفراعنة والسحرة من أعمال ومكائد ثم هم يلصقونها بموسى وهارون _عليهما السلام _ إنهم يتهمونهما بالجريمة التي هم أنفسهم – الفراعنة والسحرة – متلبسون بها. كما يقول المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت.

إن الفراعنة سواء كانوا محليين أو أجانب، يقومون بسياسات تستهدف تفريغ الأرض من ساكنيها... أو تفريغها من أصحاب الفكر والعلم فيما يسمى بتهجير الأدمغة، كيلا يبقى في البلاد عقول تفكر بتغير الواقع السيئ ولا شباب لديهم الهمة والعزيمة للتحرك في مواجهته.

سادساً: كاهن يكهن له: وقد ورد عند الترمذي وابن حنبل ( كاهن يكهن له) بدلاً من ساحر، ومع أن رواية الصحيح مقدمة على ما سواها لكن لا يمنع أن يجمع الساحر وظيفة الكهانة أيضاً، وهو واقع في زماننا، كما أن كثيراً من الزعماء يكون لهم عرافون أو عرافات، فمن جهة يجد بعض هؤلاء الزعماء لعدم إيمانهم بالله حق الإيمان، أنفسهم في مسيس الحاجة إلى عرافين يستشيرونهم في أمور عديدة على المستوى الشخصي أو حتى العام، ومن جهة أخرى يمكن لهم أن يوجهوا العامة أو بعضهم  لمواقف وسياسات وسلوكيات في صالح النظام، وقد تقوم بذلك مراكز أبحاث أو مستشارون متخصصون ليسهل إقناع الجماهير.

[1] أصحاب الأخدود، محمود العشري.

[2] أصحاب الأخدود، رفاعهي سرور.

( الحلقة 3) راهب في الطريق

(فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه)

وهنا عدد من الأسئلة:

-       لماذا يحرص الساحر على توريث من يحمل السحر بعده؟

-       ولماذا يريده غلاماً؟

-       ولماذا انتظر حتى كبر؟

-       وما الداعي أن يقول للملك: إني قد كبرت؟

-       وكيف سيتم اختيار هذا الغلام؟

لما كان الشيطان هو الذي يوجه الساحر؛ فإنه يريد أن تستمر دولة الكفر والصد عن سبيل الله، ثم إن الإنسان إذا خذله الله وأحاطت به خطاياه لم يكتف بأن يكون فاسداً حتى يكون مفسداً، وحتى تكون له سيئة جارية.

أما لماذا انتظر حتى كبر، فإنه لو طلب الموضوع مبكراً فإنه يخشى أن ينافسه أو يزيحه عن مكانه ومكانته.

ثم ما الداعي أن يقول للملك إني قد كبرت، سيما والأمر ليس بالخفي على الملك ولا على غيره، إنه فيما يبدو استباق لما يتوقع أن يطلبه منه الملك فيكون له عنده سابقة، تحول دون عقوبته على التقصير، وتنفعه حين يعجز عن العمل وخدمة الملك.

وقد أراده غلاماً لأنه أطوع وأسهل في التشكل، وأقل مشاغل فهو متفرغ للتعلم، وهذا يفيد أيضاً في أن يظل الغلام أطول فترة في خدمة النظام الحاكم.

وفي رواية الترمذي: ( انْظُروا لي غلامًا فَهِمًا - أو قال: فَطِنًا - لَقِنًا، فأُعَلِّمه علمي)، وهذا مطلوب ليكون تلميذاً نجيباً، وليكون ساحراً متميزاً يتقن خداع الجماهير.

(فبعث إليه غلاماً): لم يخبرنا الحديث كيف تم اختيار الغلام ومن هم أهله، لكن واقع هذه الأنظمة أن كل ما في الدولة وكل من فيها هو في الحقيقة للملك، وتحت تصرفه، لا يملك غلام أن يمتنع ولا يستطيع أهله أن يرفضوا أو حتى يجادلوا، حتى لو أخذوهم وأولادهم إلى الموت المحقق، فكيف والغلام قد أُخذ ليكون ساحر الملك حيث العز والسعادة؟.

الغلام بين الساحروالراهب

( وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه):أي كان في طريق الغلام أذا أوغل فيها راهب، وهنا تثور مجموعة من الأسئلة:

-       أين يسكن الساحر؟

-       لماذا ترهبن الراهب، وما الذي جعله يدعو الغلام؟

-       ما دلالة فقعد إليه؟.

-       ما دلالة فأعجبه؟.

-        وما دلالة (كلامه)؟

من الواضح أن الساحر يسكن في مكان بعيد عن المجتمع ما يتناسب من جهة مع غموض أعماله وسريتها، فالمهام غير النظيفة التي يقوم بها السحرة تطبخ في الظلام بعيداً عن العيون والأنظار، وليس أخطر عليها وعلى أصحابها من النور، ثم إن الساحر بقربه من الملك لا يضيره أن يكون بعيداً عن التجمعات السكانية، ولا يلزمه أن يقيم حتى في تجمعات النخبة والكبراء؛ فكل ما يحتاجه هو وأهل بيته يصلهم مضاعفاً إن لزم الأمر.

ماذا يعني الراهب؟ ولماذا ترهبن؟

الراهب عابد ينعزل عن الحياة ليتعبد بعيداً عن الناس، ومن الجدير بالذكر أن الراهب هنا موحد وليس على التثليث، ويذكر الشراح أنه كان على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو احتمال، ولا يبعد أن يكون من بني إسرائيل، بعد موسى عليه الصلاة والسلام، أو من المؤمنين قبلهم، إلا إذا فهمنا أن آية ( ورهبانية ابتدعوها) على معنى أنه لم يترهبن أحد قبل النصارى، وعلى العموم فلا يترتب على تحديدهم كبير فائدة، وقد خلت القصة من أي محددات زمانية أو مكانية أو تعريف بالأشخاص لتتمحض للعبرة.

أما لماذا ينعزل؟ فمن الواضح أن ذلك لم يكن اختياراً بل كان اضطراراً بسبب ملاحقة النظام لدعوة التوحيد وأتباعها واضطهادهم، حيث إن الأنظمة الفرعونية المتجبرة يمكن أن تسكت عن محاربة المتدينين المنعزلين الذين لا يمارسون الدعوة، ولا يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يسعون لتغيير الواقع، بل ربما شجعت مثل هذا التدين، وقد رأينا كيف أن قريشاً لم تحارب النبي عليه السلام لما كان يتعبد قبل الوحي في غار حراء.

والسؤال المطروح هل كان إرهاب الدولة وعدوانها على الدين وأهله قد أوصل الراهب إلى درجة من الخوف واليأس، ليتخذ قراراً بالانعزال الدائم والنجاة بنفسه، لكن استفزه ما رآه من محاولة لإفساد طهارة الغلام وبراءته، والحرص على استمرار الكفر والزيف والصد عن سبيل الله، فبادر إلى دعوة الغلام؟ أم تراه كان يتخفى برهبانيته كيلا يصطدم بالنظام وتحين الفرصة كي يدعو بسرية ويربي على مهل، حتى إذا لقي الغلام وجد فيه بغيته، ومن يدري فلعله دعا غير واحد قبله لكن كان الغلام هو الأبرز؟ ليس سهلاً الترجيح، لكن ما سنراه من حكمة الراهب وإخلاصه وحسن تربيته للغلام يجعل النفس تميل للرأي الثاني، سيما واختيار الراهب صومعته في طريق الناس، بين المدينة "وقلعة" الساحر، حيث يمكن أن يمر العامة والخاصة، يوحي بأنه لم يكن يقصد العزلة التامة بل كان ينتظر ليتخير، ولو كان قصد مجرد العزلة والهرب بدينه لابتعد عن طريق الناس.

إن هذا الراهب ذو شخصية أليفة محببة؛ إذ سرعان ما قعد إليه الغلام، وذاك شرط أساس للدعاة، أنهم يألفون ويؤلفون، وهم يحبون الناس وبالتالي يحبهم الناس، وسيأتي في القصة ما يؤكد شدة التصاق الغلام بالراهب، وثقته به ورجوعه إليه في أموره ومشاكله وكل ما يستجدّ عنده.

( فسمع كلامه فأعجبه) إن عبارة (كلامه) تشير إلى أن للراهب كلاماً آخر مختلفاً عما يسمعه الغلام من الساحر، وعما يعايشه في محيطه الاجتماعي ... (كلامه): إنه الكلام المقابل لكلام الساحر، إذ المفترض أن الساحر يهيء الغلام لمواجهة الدين الحق الذي سيظهر أن الراهب ينتمي إليه، ( فأعجبه) أي أدهشه فيه جدته وغرابته وحسنه، فأين كل الدعوات والأديان مهما بولغ في تزيينها وتزييفها، من دعوة التوحيد ودين الحق؟! إنه سرعان ما يؤدي عرض الدين إلى حالة من الانبهار والاندهاش والإعجاب الذي لا يملك سامعه إلا الإيمان والاستسلام.

 ولذلك فقد رأينا موقف الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثله ما أخبرنا القرآن عن نفر من الجن الذين استمعوه: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)، ولذلك فإن الفراعنة يحرصون على ألا يُسمع لكلام الحق، فإذا بهم يتواصون: ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)، حتى إن أحد الشعراء وضع في أذنيه الكرسف كيلا يتأثر بعد تحذير قريش له، وقد اشتكى نوح قومه بأنهم، وحتى لا يتأثروا بكلامه: ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)، فهم لم يكتفوا بإغلاق آذانهم كيلا يسمعوا الحق بل إنهم غطوا وجوههم بهدف تيئيسه من دعوتهم. وكيلا يتأثروا بمرأى الداعية حيث صدق الملامح وصفاء الوجه ونور الإيمان في وجهه مع لهجة الصدق الحاملة لكلمة الحق والخير والعدل، ولذلك عمدت الدولة الحديثة إلى إبعاد الدعاة عن مواطن التأثير في التعليم والوعظ والإعلام، ويكفي في ذلك منع المحجبات من الظهور على الشاشات، والتواجد في المدارس والجامعات، فضلاً عن تشويه صورة الدعاة بالشائعات حتى يبتعد عنهم الناس، لكن تتفاوت الأنظمة في ذلك لاعتبارات شتى.