تأملات في القرآن الكريم ح 2

حيدر الحدراوي

[email protected]

سورة البقرة الشريفة

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم }(1)

اختلفت مذاهب مفسري القرآن الكريم في معنى ودلالة هذه الحروف , فكل قد طرح ما يرتئيه , وقد بلغت الاراء الشئ الكثير , ولم يجزم احد , فيميل الاخرون الى هذا الرأي او ذاك , حسب ما تمليه ثقافاتهم , او ربما تعصبهم لشخص و مذهب المفسر , فيجب على المتأمل ان يكون خال من التعصب لرأي دون اخر , وان لا يميل لرأي غير مجزوم فيه , ويلزم الاعتدال والحياد , كي يصل الى تأمل معتدل وغير منحاز , على المبدأ القائل (( خذ الحكمة من افواه المجانين )) .

ان محمد صلى الله عليه واله قد ذاب في محبة الله تعالى , بل تفانى في عشقه جل وعلا , فلابد من اسرار لهذا العشق , فلا يدرك او يهضم تلك الاسرار الا من جرب , العشق الالهي الطاهر , وذاق حلاوته , وتمرغ في وحل كرامته , كحال العاشقين وخفاياهم ( الامثال تضرب ولا تقاس ) , ورموزهم فيما بينهم لا يفهما الا من جرب حالتهم , وتمرغ في وحلهم .

رسائل العاشقين فيما بينهم , مليئة بالشفرات , والرموز , متفق عليها سلفا , او يفهما الجانب الاخر , فالحر تكفيه الاشارة , كما وان الرسائل المتبادلة بين الناس , تخفي بين طياتها وسطورها معاني لا يفهما الا ذو لب لبيب , ومن تلك الاشارات , ما طلبه شعلان ابو الجون وهو قابع في السجن الاحتلال البريطاني , ان يحضر له تسع او عشر ليرات ذهب , فلم يكن المقصود الذهب بعينه , بل كان المقصود تسع او عشر رجال من شجعان القبيلة , فأسرع الطرف الاخر لتلبية الطلب حينما فكّ الشفرة , فكيف الحال لو كان المعشوق جل وعلا , والعاشق محمدا (ص واله ) , فما سيكون نوع تلك الشفرات ؟ , ومن يستطيع ان يحل لغزها ؟ ! .

يتأمل العبد العاشق في تلك الحروف , {الم } , التي زينت مستهل السورة الشريفة , فينطلق مسافرا بين الاسرار , طالبا المعاني , باحثا عن اسرار المحبة  , العشق , قاصدا الوصال , من بعد الهيام , فيقف لدى بعضها , وتعصي عليه اخرى , فيعود من حيث بدأ السفر والتأمل , فيعد العدة لسفر متأمل جديد . 

ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} للمتأمل ان يقف لدى ( المتقين ) , فالله جل وعلا يصفهم بالتقوى , واخرين يصفهم بغيرها , كالمؤمنين و المحسنين الى غير ذلك من الصفات الحسنة , النقطة الجميلة في الموضوع , هي ان الله جل وعلا وصفهم بذلك , واسدل عليهم تلك الالقاب والنعوت , (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }النجم32 .

المتقي بعد ان هداه الله عز وجل لابد له من دستور , وقانون يبين له الحدود , فكل دولة تتخذ دستورا لها , وقانون تسوس به العباد , من وضع البشر , فكيف الامر بكتاب انزله الله عز وجل  ليكون دستورا وقانونا لكل الدول وعامة الناس ! .

الجدير بالملاحظة , ان الله جل وعلا يشير الى ( ذلك الكتاب ) , ويقول عنه ( لا ريب فيه ) , ويصفه بأنه ( هدى للمتقين ) , فأن في ذلك دلالات واضحة لمن خبر اللغة العربية , ومحل تأمل في بلاغة وفصاحة كتاب الله عز وجل ! .

يسافر المتقي في كتاب الله , متنقلا بين حروفه وكلماته , سوره واياته , بين اوامره ونواهيه , حلاله وحرامه , مستحباته ومكروهاته , حدوده وتعزيراته , فيقف عند كل منها وقفة تأمل , فيقع بصره على غيبياته , وتنكشف بصيرته عن مكنوناته , فيصحو من غفلة , لازمته طويلا , فغطت بصره و بصيرته , {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }ق22 , فينظر بحدة البصر , لبديع اسراره , فينهل منها منهلا عذبا , سائغ شرابه , فيشرب منه شربة لا يظمأ بعدها , الا في عشق تلاوته , وحلاوة انسياب كلماته , فيعود من سفره , غانما بعذب الشراب .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{5}

تصف الايات الكريمة صفات المتقين , , في ست علامات , هي  الايمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق , و الايمان بما انزل على النبي محمد ( ص واله ) والايمان بما نزل قبله ( ص واله ) والايمان بالاخرة بدرجة اليقين .     

المتأمل يقف عند الاية  ( أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ){5} , فيلتفت الى ان فيها مقطعين , الاول (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) والثاني (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) , فينسب كلا من ذينك المقطعين الى اية من الايات السابقة , أي ان (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) في مقابل الاية (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) {3} , فمن مستلزمات العبد المهتدي بهدى الله عز وجل , ان يؤمن بالغيب , ويقيم الصلاة , وينفق مما رزقه جل وعلا , اما الاية (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) في مقابل الاية (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ){4} , أي ان المتقي الذي يؤمن بما انزل اليه ( ص واله ) وما انزل قبله ( ص واله ) ويوقن بالاخرة , اضافةالى الهدى الذي ناله , فقد احرز مستلزمات الفلاح .

وهكذا يكون القرآن الكريم يشرح بعضه البعض , واياته متداخلة ومترابطة بشكل عجيب ! .

يعرف علماء الفقه الصلاة , بأنها صلة بين العبد وربه , فيسافر العبد متصلا بربه , متنقلا بين حركات الصلاة , القيام والركوع والسجود , تاليا كل ما فيها من كلام , فيبدأ بالسفر عند التكبير , فيترك الخلق , متمسكا بحبل الله , فيرتقي بين الحركات والسكنات , فيقف على اسرار الهدى , وتتجلى له معاني الفلاح , فيملئ جعبته , بعد ما نال نصيبا من بغيته , فيعود ليسافر بين الخلق الى الحق بالحق , بعد السلام والفراغ من الصلاة .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{6} خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ{7} يقف المتأمل في المقارنة بين المتقين في الجانب الايجابي , ما يقابلهم في الجانب السلبي , مقارنة ليست من فعل وعمل البشر , بل هذه المقارنة مما اشار به عز وجل , وهو اعلم بكم من انفسكم , فيجيل المتأمل نظره بين الطرفين .

فينظر في تكريمه عز وجل للمتقين ومن حذا حذوهم , فيصفهم بأفضل الاوصاف , ويمدحهم بأجمل ما يكون من مديح , ويبين نهاية المطاف لهم , (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) , فيتمنى ان يكون منهم ! , ويمعن النظر في ما يقابلهم , فينعتهم الله عز وجل بابشع النعوت , وينتهي بهم المطاف , (وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ) , فيختار مع من من الطائفتين يحب ان ينتهي به المطاف , {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }البلد10 .

 فيسافر المتقي في الجانب السلبي , فينظر لحال هؤلاء واحوالهم , في هذه الدنيا الفانية , وما ستؤول اليه في العالم الاخر , ويمعن النظر في مدى تماديهم و كفرهم بالله رب العالمين , وسيدرك استحقاقهم للعذاب الذي اعده الله لهم , فيتبرأ منهم ومن عملهم , وينطلق الى رحاب المتقين , فينظر في حالهم وحالاتهم , ومدى الكرامة التي ظفروا بها , لا لشيء الا انهم اطاعوا الله جل وعلا , فيعلن موالاتهم , لينطلق الى سعة كرم الله ولطفه , فيشاهد من لطفه وكرمه ما لاحدود له , ولا تصفه الالسن والاقلام , فيجثو على ركبتيه ساجدا لله رب العالمين , لما حباه من خير عميم , فيعود للخلق , مصحوبا بنعمة الحق .

 

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ{8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ{9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{10} تذكر الايات الشريفة طائفة ثالثة , هم اقرب الى الجانب السلبي , ولهم نفس النهاية والمطاف , في حين انهم يتظاهرون بأنهم مع الجانب الايجابي ( المتقين ) , ويصفهم الحق تعالى بأنهم يخادعون الله والمؤمنين , فكيف يخدعون الله وهو اعلم بالسرائر ! , اما المؤمن فلديه فراسة , تدعى فراسة المؤمن ((اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)) , لذا فلا يمكن خداع المؤمن ايضا , فيقول عنهم عز من قائل ((مَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ )) , ويعلل الله عز وجل وينسب ذلك الخداع , الى مرض في قلوبهم , وما اخطر صاحب القلب المريض ! .

امراض القلب كثيرة , وهي على قسمين : الاول عضوي , والثاني روحي ( روحاني ) , من المحتمل جدا , ان الاية الشريفة قصدت النوع الثاني , فالامراض العضوية كــ ( الصمامات , احتشاء العضلة القلبية .... الخ ) لا تعني تجرد صاحبها من الايمان والتسليم لامر الله عز وجل , بل على العكس من ذلك , نجد الكثير من المؤمنين يعانون  من امراض قلبية , وبعضهم لاقى الاجل من جرائها , اما الذين ذكرتهم الاية الشريفة يتمتعون بصحة جيدة , ولا يشتكون امراضا قلبية عضوية .

ان امراض القلب الروحية كثيرة , فمنها النفاق , الشك , الريب , الفجور , الزيع , الحقد وغيرها , ولعل اشدها النفاق , فيكون المنافق خطرا على نفسه , حيث توعده الله عز وجل بالمزيد من المرض ((فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{10} )) , وخطرا على المجتمع الذي يعيش فيه , كونه اسرع الناس غدرا وخيانة , وابعدهم عن الله جل وعلا.

فيسافر المتقي في عالم القلب الباطن , مستكشفا امراضه , فيبحث عن الطبيب , طبيب روحاني , يشخص المرض , ويصف الدواء , يستمر على هذا الحال , حتى يستكمل شفاء قلبه من جميع الافات الروحية , فيتكامل صفاءه , فينطلق بقلبه الى الطبيب الاول والاخير , طب القلوب وطبيبها , فيزداد قلبه تكاملا وصفاءا .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ{11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ{12} بعد ان ذكرت الايات الشريفة , ثلاث فئات من الناس , الاولى المتقين , والثانية الذين كفروا , والثالثة الذين في قلوبهم مرض , وبينت حال كل منهم , فعرجت الايات الشريفة التالية على ذكر اعمالهم , ولعل ابشعها ( الافساد في الارض ) , حيث يعمّ الافساد كافة انحاء المعمورة , ويتخذ اشكالا مختلفة .

فمن الافساد ما يشمل الانسان , حيث انتشار الرذائل , وغياب القيم الانسانية , ومن الافساد ما يشمل الطبيعة , من قبيل كافة انواع التلوث في مياه البحار والمحيطات والانهار , و التلوث الجوي , كظاهرة الاحتباس الحراري , ونقص المزروعات , و نمو ظاهرة التصحر .... الخ .

لعل الايات الشريفة تقصد فساد سريرة الانسان , التي لو صلحت , صلحت الدنيا بما فيها , وان فسدت اهلكت الحرث والنسل ! .

فينطلق المتأمل في سفر بين الخلق , فيشاهد اثار الفساد والافساد , فينظر في العباد , فأيما عبد قد عفسد , ذهب عنه النور , واكتنفته الظلمة , فأغشت بصره وبصيرته , حتى لا يكاد يفقه شيئا , وينظر في البلاد , فأي بلد  قد  فسد , حلت فيه النقمة , وعظم فيه البلاء , وايما بلد صلح , كثرت خيراته , وازداد نماءا , فينطلق لابعد من ذلك , فيهيم مسافرا له تعالى , مؤملا ان ينال الصلاح , فمنه تعالى مصدر الصلاح , والعصمة من الفساد .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ{13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16} مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ{17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ{18} أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ{19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{20}

ان الذين في قلوبهم مرض يصفون المؤمنين بالسفهاء , فيرد عليهم الباري عز وجل بأنهم هم السفاء ولكن لا يعلمون , ذلك لانهم ينظرون للمؤمنين من زاوية ضيقة , ونقطة ظلماء في قلوبهم المريضة , تزين لهم اعمالهم , فيتصورون انهم على حق , وفي طريق قويم , وتقبح لهم قلوبهم المريضة اعمال المؤمنين , من صيام وصلاة , وكافة الاعمال التعبدية , والاعمال الخيرية على انها نوع من السفاهة , فيذهبون الى ان كرم المؤمن وايثاره من السفه , والقدرة على السرقة مع الامكان نوع من انواع الحمق ! ... الخ .

ينظر المتأمل في امرهم , فاذا التقى أي فرد من ذوي القلوب المريضة ايما مؤمن , تظاهر بالايمان , وابدا همته للقيام بكافة اعمال الخير , وحين يقابل من هم على شاكلته , يؤيد بعضهم البعض , ويتنكرون للايمان , ويسخرون من المؤمنين , فلماذا كل هذا التظاهر ؟.. وما الداعي لكل هذا المراء والنفاق ؟ .. فقد يكفي المرء ان يقول انا أؤمن بهذا الامر , ولا اؤمن بذاك .

 ولينظر المتأمل الى نظرة الله تعالى لهم , فهو جل وعلا اعلم بما في انفسهم , فلا يمكنهم تمرير مثل تلك الألاعيب عليه جل ثناؤه , وليقف طويلا متاملا هذا المنظر , حيث ينفاق هؤلاء , والله يراقبهم , بل (اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

 أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16} يصفهم الحق تعالى بأنهم قد اشتروا الضلالة , وباعوا الهدى , فخسرت تلك التجارة , ولا يمكن للتاجر الخاسر من ان يهتدي الى سبل النجاح , فقد باع اجود ما عنده من بضاعة , واشترى بثمنها أردأ البضائع وابخسها ثمنا , تلك هي المتاجرة معه تعالى , وتقوم على اساس الايمان به تعالى , و اداء الواجبات , واجتناب المحرمات , والمكروهات , في مقابل ذلك يحصل المؤمن على الثواب الجزيل , خالصا منه تعالى , فيالها من تجارة ! , لا يخسر تجارها , ولا تفسد بضاعتها على مر الدهور .

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ{17} , الله تعالى ضرب الكثير من الامثال , في العديد من المواقع والمواقف , الهدف منها تقريب المعنى للاذهان , وفتح العقول للتفكر , ففي كل قلب مريض , هناك ظلمة , لاتبارحه حتى يستنير بنوره تعالى .

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ{18} , تلك الظلمة غشت حواسهم , ليست الحواس الجارحة , بل الحواس الروحية , فلا يسمعون قول الحق , ولا يبصرونه , ولا يمكنهم النطق به , فكم هو خائب وخاسر من كان كذلك ! .

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ{19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{20}

وتتوالى الامثال , تختلف في المحتوى , ولها نفس المضمون , نظرا لعظم امر الكافرين والمنافقين , ضرب الله تعالى عدة امثال لهم , مبينا حالهم في هذه الدنيا الفانية , وعيشهم في ظلام دامس , مجردين من القيم الروحية والمعنوية , فيسرحون ويمرحون كالبهائم , بل اضل سبيلا .

ينطلق المتامل مسافرا في هذا النوع من التجارة , فينظر في اسرارها , ويقف عند مواقف عرضها , ويتجول في اسواقها ( المساجد و كافة المقدسات الاسلامية ) , ويمعن النظر في تجارها , واوفرهم حظا منها , واكثرهم ممارسة لها , فيتعلم منهم , ويقتبس من تجاربهم , فيتاجر هو فيها , فينطلق الى الحق , فيعرض تجارته , ويقدم ذنوبه وندمه , وكل ظلمة كانت تغشاه بين يديه , فيقول ((يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }الأنبياء97 .