قد أفلح المؤمنون

شريف قاسم

[email protected]

قد أفلح المؤمنون الذين اشرأبت أعناقهم إلى فيوض رحمة الله تبارك وتعالى في ظلال هذا الشهر المبارك ، واطمأنت قلوبهم إلى ماعند الله من مغفرة ، واستجابت نفوسهم إلى نداء التغيير الذي يزيد من جُذى الإيمان في صدورهم ، فسمت الأخلاق ، وارتقى السلوك بما في الإسلام من قيم وآداب ومشاعر وعبادات ، فشعر المسلمون من جديد بضرورة إحياء عزائمهم ، وطيِّ صفحات الوهن التي عاشوها السنين الطوال ، ولن يجد الضعف والركون إلى الدنيا مكانا في جوانحهم ، فلقد هانت الرزايا أمام صبرهم على أقدار الله عزَّ وجلَّ ، وعلى مالاقوه من الطغاة المجرمين ، وما زال إيمانهم أقوى وأكبر من كل طغيان ، ومن كل مايُحاك عليهم من كيد ومكر ، ومن أحقاد . ( وإِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) 10/الزمر . حيث كانت الرزايا والمحن اختبارا لهم  على قوة إيمانهم بالله ، ومنطلقا لتجسيد معاني صدق فطرتهم التي حاول أعداء الإسلام طمسها أو تشويهها ، ولقد نجح المؤمنون الصابرون  بفضل الله في هذا الابتلاء ، يقول الله تعالى:  (الـم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِين  (1/2/3 /العنكبوت .

وموسم هذا الشهر المبارك أغنى تلك الرؤى ، ومكَّن لتلك القيم في نفوس أبناء الأمة ، ومنح تلك النفوس أسباب القوة ، فانطلقت توَّاقةً إلى آفاق السمو والتميُّز الإنساني ، وهرعت نحو ميادين الإصلاح يغريها شغفُها بما خبَّأ الله لها من فتح ومجد في الدنيا ، ومن مثوبة ورضوان في جنَّات النعيم . فمقتوا هذا الباطل الذي استحوذ على حياتهم من قِبل أعداء الأمة ، حيث استجلب لهم تجديدُ الإيمان هذا الشموخَ بالحق ، وهذا الفداء بالنفس والمال ، إنها حقيقةُ الإيمان التي لم يعد تحجب شمسَها كلُّ مايملك الطغاة المرتدون من قوة وجبروت ، فهذه الحقيقة هي شريان النهوض المتدفق بالحماس وبالعمل ، وهي الصرح الشامخ في وجه الأعاصير العاتية التي تهدد كيان الأمة ودينها ، إنها حقيقة الإيمان التي صدَّت الشَّرَّ والأذى عن مكان الأمة ومكانتها العالمية ، وعن شريعتها الربانية : ( فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ، إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) 174/175/ آل عمران . وليبقى هذا الشهر العظيم سببا في إحياء أسباب العبودية لله ، فالقيام والصيام وتلاوة القرآن وبذل الخير والإقبال على الله تنسج ثوبَ تقوى الله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾  183/ البقرة ، وهذه التقوى تقود الأمة إلى الجنة ، وتبعد خُطاها عن النار ، عن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال: قال رسولُ الله  صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا دخَل شهرُ رمضان فُتحتْ أبواب الجنة، وغُلقت أبوابُ جهنم، وسُلسلتِ الشياطين) رواه البخاري ومسلم . ولن ترضى الأمة بديلا عن معطيات التقوى التي جاء بها القرآن العظيم الذي أنزله الله في هذا الشهر الكريم : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) 185/البقرة ، ففي التقوى انتصار على الرغبات المحرمة ، ومجافاة للأهواء والإغراءات الباطلة ، ومقت لبضاعة التغريب والحداثة وما فيهما من ضلال وفساد وأباطيل ، وبالتالي فإنها تقضي على العقم الحضاري الذي أصاب أمةً لم تعرف إلا آفاق المجد والسؤدد ، والعناوين الكبرى في عالم الحق والعدل والأخلاق والعلوم ... ليس للباطل أن يسود ، وليس له أن ينتصر على الحق مهما تعالى وانتفخت أوداجُه ، وكثر جنده ، وهيهات ... هيهات  إن الرزايا والأهوال التي تمر بها الأمة اليوم ماهي إلا عنوان الفتح القريب ــ بإذن الله ــ ( ولينصرن الله من ينصره ) ، إن الفلاح الدائم يكون لأهل التقوى الذين يؤثرون ماعند الله على كل ماتراه أعينهم من زخارف الحياة الدنيا ، ( ذلك الدين القيم ) ، وهم عند حصون إيمانهم وثغور يقينهم بربهم ، زادُ أرواحِهم كتابُ الله وسُنَّةُ نبيِّه صلى الله عليه وسلم لايرتضون بغيرهما بديلا ، إن أعداء الإسلام يحاولون إلغاء هذا الدين من حياة المسلمين ، فجنَّدوا كل وسائل الفجور والإلحاد : (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)  137/ الأنعام، بكل ماللباطل من أوجه ذات زينة ، وكل ما أوحى به شياطينُهم من مكر ولؤم وحقد ، ليلبسوا على الناس ، ولكن الأمة آبت إلى الله ، وفتحت الصفحات المشرقات من تاريخ مكانتها السالفة ، وأبعدت عنها التزييف والخلط الشائن : (   وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ) 42/البقرة  ، ففي هذا الشهر المبارك تقترب الأمة من ربها تبارك وتعالى ، ويفتح الله لها أبواب رحمته ورضوانه : ( وَإِذَا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) 186 /البقرة ، ألا فلتمتد الأيادي البيض إلى بارئها تدعوه وتسأله الفتح والنصر ، أيها الإمام العادل الذي يحكم بشريعة الإسلام ، أيها الصائم القائم العابد ربَّه آناء الليل وأطراف النهار ، أيها المظلوم بين أصفاد الطغاة المجرمين ... ارفعوا أيديكم إلى الله ، فلن يخيب الله رجاءَكم ولن يردَّ دعاءَكم ، عن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال: ‏قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام ، وتفتح لها أبواب السماء ويقول وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه ابن ماجه .  وأما أنتم يامَن لاتدرون أيَّ شهر مرَّ عليكم ، وهاهو يودع الأبرار الأطهار ، فلقد خبتم وخسرتم ، بعد أن ألهتكم الشهوات واللذائذ ، وأعمت بصائركم الأهواء ، فتعسا لكم ، عن‏ ‏أبي هريرة‏ رضي الله عنه ‏قال: قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم : ( رَغِمَ أنف رجل دخل عليه رمضان ثم ‏ ‏انسلخ‏ ‏قبل أن يـُغْفَرَ له) رواه الترمذي . ودائما يكون الفلاح للمؤمنين بالله المصدقين بما أُنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين اصطفاهم الله للإيمان ولحمل هذه الرسالة ، ووعدهم بالنصر والتمكين : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ،  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُو الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) 31/32/فاطر ، أولئك هم السابقون بالخيرات المجاهدون في سبيل الله ، المرابطون اليوم على ثغور الإسلام في الميادين ... ميادين العزة والإباء والثبات على الحق  ، طوبى لهم وحسن مآب : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ،  وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُور شَكُورٌ ،  الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) 33/34/35/ فاطر  ، وأما أعداء الإسلام من المرتدين والمنافقين والمتآمرين لهدم أركان الإسلام ، فوالله ليس لهم إلا الخزي في الحياة الدنيا ، وليس لهم إلا التبار والخسران يوم الحساب : (  وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ،  وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ َوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ  ) 36/37/ فاطر .

أولئك الذين عاشوا أبشع أنواع الانحطاط الخلقي  حين تنكروا لدينهم ، ولقدسية هذه النفحات الربانية في ظلال هذا الشهر ، وحين حاربوا الإسلام وأهلَه بكل ما أُتوا من قوة ومكر وتزييف ، وحين أشاعوا أسباب الفساد والضلال ، وحين فقدوا معنى الحياة الطاهرة التي أرادها لهم رب الأرض والسماء ، إن مجافاتهم بل وحربهم على الدين الإسلامي الحنيف أرجع الأمة إلى دياجير التخلف والضعف والتبعية المقيتة لدول الاستكبار التي تقودها الماسونية العالمية ، إن الأمة اليوم بحاجة إلى العودة إلى قرآنها وسُنَّة نبيِّها صلى الله عليه وسلم ، إنها بحاجة إلى إيقاد الأشواق إلى الله ، تلك الأشواق التي تبدد كدر الصدور ، وتعيد الأمة إلى حضورها العالمي الفاعل المؤثر ، من خلال تدفُّق ينابيع الرحمة والإخاء الفيَّاض بالصدق والتواد ، وتبًّـا تَبًّـا للطغاة المجرمين الذين يحولون دون ذلك ، فلهم الذلة ولهم سوء المنقلب وبئس المصير ، ( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) 38/ فاطر .