القليل، صفته ومنزلته وجزاؤه

ناديا مظفر سلطان

كتبت لي إحداهن من حلب تنعي بحسرة ، "الوطن المغتال على يد أبنائه " ، وترثي ثورة ضائعة " بين جشع التجار و مستفيدي النظام ممن ربت نفوسهم بالحقد حتى أنهم مستعدون لبيع بلادهم . فولاؤهم للأخضر المدلل فحسب "، ولم تستثن في رسالتها من أبناء الوطن المغتال سوى

"فئة قليلة ممن رحم ربي أخلصوا لبلدهم العطاء وأرادوا لها التغيير  و الإزدهار، وفتحوا بطموحهم نافذة أمل ".

و الحقبقة أن القرآن قد  ذكر " القليل " مرات عديدة ، وكان وصفا لفئة من البشر  لها مسيرتها  المميزة عبر العصور

وقصة " القليل " تبدأ منذ خلق البشرية الأول ، فينبئنا السياق القرآني ، أنه عند صدور الحكم على إبليس بالطرد الأبدي من الجنة ، والتردي السرمدي في النار - بعد أن أبى السجود لآدم – ما كان من هذا الطريد  إلا أن تقدم مطالبا بمهلة زمنية لإرجاء الحكم ، ومراهنا في الوقت ذاته على ذرية غريمه "  المكرَم "  ليستفزز من يستطيع منهم بخيله ورجاله ، ويشاركهم أموالهم وأولادهم ، ويقودهم مهطعين من ذروة التكريم والتعظيم إلى حظيرة الفساد والضلال

  "قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ؟

لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته   إلا قليلا"

 فالقليل هي  "فئة مستثناة "من قطيع الأنعام ، أولئك  الذين أذعنوا طائعين لقبضة الشيطان ، وانساقوا وراءه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .

 وهكذا انطلقت "مسيرة القليل " ،  منذ عهد البشرية الأول ، لا يضرها من خالفها ، لتثبت تميزها واصطفاءها ، وكذلك قدراتها وبلاءها ، وأخيرا منزلتها وجزاءها.

والقليل فئة  أخذت بالميثاق الذي اتى به نبيها ، فأخلصت قلبها وسعيها لله وحده ، وأحسنت للأهل والعشيرة والوطن ، بفقرائه وأيتامه ومساكينه ، أدت فروضها ، وتواصت بالحسن  في قولها ، فلم تنافق لمصلحة ،ولم تداهن لمنصب ، ولم تتخلف عن الركب ، لتنعم في مساكن طيبة و فنادق مترفة

*وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون *

والقليل فئة  اكتفت بغرفة من ماء النهر تطفئ بها ظمأها رغم قسوة الحر ومشقة المسير ،  فانتصرت بصبرها وطاعتها ووحدتها تحت لواء زعيمها  على عدوها بعدده الكبير وعتاده العظيم ، رغم قلة عددها وضآلة عتادها .

*فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده .فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملا قوا  الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله *

والقليل  فئة لم يضرها كثرة من خالفها وسخر بها من منحبكجية ، ومن مدعي "المؤامرة الكونية" ، فعملت بثبات ويقين  ، دون أن يتسلل الشك إلى نفوس أفرادها بأن نصر الله لابد آت

*ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه

*حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل*

والقليل فئة لم تجزع لتهديد ، ولم يثبط عزمها خوف ، من أن يتخطفها شبيحة الأسد ، أو يبطش بها أعوانه وزبانيته

*واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون*

والقليل فئة تعمل كبنيان مرصوص ، فلا يبغي شريك على شريكه ليقيم أمارة ، أو ينفرد بنصر ، أو  يفاخر بزعامة.

*وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم *

تلك هي صفات القليل ، وقد وعد الله الفئة القليلة بالنصر وقهر الفئة الكثيرة ، ولكن ذلك لن يتحقق ما لم تكتمل للقليل صفاته .

لقد اختصر ذات يوم رجل دعاءه فسأل ربه أن يجعله من "القليل" ،  ولما سأله عمر بن الخطاب عن قصده أجاب : لأن الله يقول *وقليل من عبادي الشكور*.  فأبكى جوابُه عمر ، وقال : "كل الناس أفقه منك يا عمر"

 فتاة حلب ختمت رسالتها بتشاؤم وحسرة "أدعو الله أن يولي علينا من يخافه ويحسن التصرف لأن حال البلد بحاجة لمعجزة ربانية "

مصيبتنا ليست بكثرة الخبيث من حولنا ، ولكن في اكتمال صفات "القليل" منا ، لنحقق المنزلة ، ونكتسب الجزاء  ، ويتم النصر .

فليكن دعاءنا في هذه الأيام المصطفاة ،أن يتم الله علينا "صفات القليل" ، عسى أن يولَي أمرنا إلى حاكم كعمر.