تأملات في القرآن الكريم ح 1

سورة الفاتحة الشريفة

حيدر الحدراوي

[email protected]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ{1}

ما اجملها من كلمات , وما اعذبها من حروف , تناغي الشفاه , تداعب اللسان , تخفي بين طياتها بديع الاسرار , ثقيلة في الميزان , جالبة للخير , جالية للقلوب من درن الذنوب , مزينة للعقل بحلية رداء الايمان , مطهرة للفم من بذيء الكلام .

سبحان من جعل اسمه يتلي قبل الشروع في اي شئ , فتحلّ فيه البركة , ويزداد خيره , ويدفع ضره , ويبعد الشياطين عنه .

سبحان من طرد الشياطين بأسمه , وحجبهم بحجاب فيض نوره , تعالى من اسدل على الانسان بهيّ ستره .

حارت فطاحل العلماء بمعناها , وتوقفت عقول النحاة بمنحاها , فتعدد الطرح , واختلفت الاراء , والتفت النظريات , وهامت في غياهب بحرها مسالك الباحثين , وشردت الافكار من اذهان المتفلسفين .

من عشق شخصا , لهج بأسمه , واقتفى اثره , وترنم بأبيات شعر لتكون صبابته , اما من عشق الحق تعالى , ردد اسمائه , ورتل كلماته , واستهتر بذكر الائه , وسوابغ نعمائه , وعشق كل ما في الوجود , لانه من فيض وجوده , فكل ما في الخليقة , دال عليه جلّ وعلا , ومن عشق ربه عشق نفسه , لان روحه من روح الله , وكيانه من كيانه , ووجوده من وجوده , بل ذابت روحه في روح الله , وتلاشى كيانه في كيان الله , وانصهر وجوده في وجود الحق تعالى .

يمضي العاشق ساهرا لياليه , مناجيا القمر , كأنه معشوقه بين يديه , او مغازلا النجوم , لعلها ترسل مراميه , او تعود اليه بما يمليه , في حديث قدسي (( كذب من زعم انه احبني , فأذا جنه الليل نام عني )) , فكيف تنام عين من عشق الله , وغفل عن مناجاته , وهو السميع البصير , فخسر تلك اللذة , التي يقول فيها احد العلماء \" اين ابناء الملوك من لذة مناجاة الله \" .

يسافر العاشق بين اسماء محبوبه , تاركا الخلق خلف ظهره , مغادرا الدنيا بما رحبت , فيهيم بين اسماء من احب وعشق , فيغرق في بحرها , ويتسامى في معانيها , فيجلو رين قلبه بما فيها , يترنم بــ (بسم الله الرحمن الرحيم ) , فتنكشف عنه الحجب , و يشاهد تجليات الحق , فيغترف منها ما امكنه , ويطمع في المزيد , فيمنعه \" يا داود انت تريد وانا اريد , ولا يكون الا ما اريد \" , فيعود من سفره غير تارك , ولا مغادر , عازما على سفر جديد , فيعود للخلق , لعالمه ,  لما وسعت المعمورة , وقد نال ما نال , فيسافر بين الخلق .

لله در الامام علي (ع) حين يقول مخاطبا ربه جل ثناؤه : ( ما عبدتك خوفا من نارك , ولا طمعا في جنتك , انما وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك ) .

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{2}

الحمد لله كما هو اهله , الحمد لله كما يحب ان يحمد , الحمد لله الذي هو بالعز مذكور , وبالفخر مشهور , وعلى السراء والضراء مشكور .

الحمد لله والشكر له , واجب على كل مؤمن ومؤمنة , خالصا له تعالى , واعترافا من العبد ببديع فضائله تقدس في ملكه , وتسليما بما قضى تبارك في ملكوته .

كما وان شكر المخلوق , على معروف قد قدمه لك , هو من شكر الباري , لان ذلك المخلوق هو جزء من فيضه سبحانه وتعالى , ووجود ذلك المخلوق مرتبط  ودال على وجوده جلّ وعلا .

للشكر شروط كثيرة , يذكرها العلماء في مصنفاتهم , بعضها لفظي , وقلبي , وعملي , فاللفظي , ذكر باللسان , و القلبي ما استقر في القلب من ايمان ويقين بنعمة المنعم , والعملي , ان تظهر علامات النعمة على العبد , فأن الله جلّ وعلا , يحب ان يرى اثار نعمته على عبده .

وبالمقابل , فأن الله يزيد النعمة على من شكره , ويبارك له فيها , (( لئن شكرتم لازيدنكم )) , وعد منه جل ثناؤه لمن حمد وشكر .

بقي ان نقول , ان حمد وشكر الله تعالى , بالشروط التي يذكرها العلماء المختصون , يعدّ نعمة بحد ذاته , تحتاج الى شكر ! .

لايزال العبد حامدا شاكرا لله تعالى , فيسافر متنقلا بين الخلق , متأملا في نعمة وجود الحق , فيشاهد تجليات شكر الله وحمده , حتى يصل الى مفترق طرق , طريقا الى سفر ابعد , وطريق اخر للعودة , فيختار , اما ان يستمر في سفره , ان كان فيه طاقة لذلك , او ان يعود , ليرتاح قليلا من عناء السفر .

الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ{3}

اوسع ما خلق جلّ وعلا , الرحمة , فقد وسعت كل شئ , الانسان والحيوان , البر والفاجر , خالصة للمؤمن يوم القيامة , بل يطمع حتى الكافر فيها , لسعتها , فتناله في الدنيا , دون الاخرة .

يروي العلماء , ان رحمة الرحمانية , تشمل المؤمن والفاجر في الدنيا , والرحمة الرحيمية , خاصة بالمؤمنين في الاخرة , فليتأمل من عصى الرحمن , كيف تناله وتتغمده رحمة الله , من غير ان يشعر بذلك , فلا يبالي , ويستمر في عتوه وعصيانه .

حكى لي صديقي كوزونو الياباني , وهو من البوذيين , حيث قال : بينما كنت اقود سيارتي , مارا بطرق جبلية , فصادف ان تساقطت صخور كبيرة , فايقنت اني هالك , لا محال , فأحسست بشعور غريب , شعور ملئني اطمئنانا , فقد انحرفت الصخور بأتجاه اخر , وكأن قوة خفية جبارة ابعدتها عني , فأيقنت ان الذي ابعدها هو الله , قد ادركتني رحمته , شيئا اخر غير بوذا , بل بوذا لا يمكنه القيام بذلك , فأدركت ان رحمة الله قد غمرتني , وهي معنا على الدوام , خفية لا نراها , لكنها موجودة , فحمدت الله و تابعت طريقي .

ان التأمل في رحمة الله , لا يمكن للكلمات ان تعبر عنها , ولو بالنزر اليسير , وقد اوجزها جل وعلا ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء )) الاعراف 156 , لكن من الملاحظ ان الله جل وعلا , بدأ بالبسملة بما تحوي من اسماء الرحمانية والرحيمية  , ثم (( الحمد لله رب العالمين )) , ثم  ( الرحمن الرحيم ) , أي ان الرحمة بنوعيها قد جاءت قبل وبعد الحمد , ان هذا الترتيب محل تأمل للمتأملين !! .

تجدر بنا الاشارة , الى ان الرحمة الربانية اجمل والذّ موضوع للتأمل , للبر والفاجر , فيتفكر العبد بما يتغمده من سعة رحمة الله في كل لحظة من لحظات حياته , وفي كل امر جليا كان او خفي , ويتدبر العبد في رحمة الام على جنينها , فأنها من رحمة الله قد اودعها في قلب الام , وليمعن التدبر فيها واضعا نصب عينيه ان رحمة الله عليه اكبر بكثير !!! .

 فيسافر العبد في سعة رحمة الحق تعالى , فيشاهد اثارها على الخلق , تتغمدهم من حيث يشعرون او لا يشعرون , فيركب سفينتها , ليرى من تجلياتها , ظاهرية وباطنية , فيقف على اعتابها , فيشاهد ما لا قدرة له على الوصف , فيمضي قدما في طبقاتها ( درجاتها ) , حتى اذا ما وصل الى ما لا يدركه , او ما لا طاقة له به , توقف , و قرر ان يعود , بعد ان نهل من فيوضاتها , واغترف نورا من انوارها , ما يحتمله فقط , ليعود به المطاف الى نقطة البداية , عازما على سفر جديد في موعد قريب , مبتدئا من حيث انتهى سفره الاول .  

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{4}

الملك المطلق لله , وحده لا شريك له , اما ملك الانسان او غيره , فهو ليس بمطلق ولا دائم , ولا يرثه , الا لذويه في هذه الدنيا فقط , سيترك الانسان كل شئ حين يتوفاه الاجل , ولا يأخذ معه شيئا سوى الكفن , الذي سرعان ما ستأكله الارض , ويختفي للابد .

ذلك الانسان المشغوف بجمع الثروات , فيحصل عليها بكد وعناء , او بالاعتداء , فيحرص على انمائها , ويحرسها , وتشغل تفكيره , وتعطل كل طاقاته من اجلها , فيحزن عندما يخسر ولو شيئا قليل من ثروته , ويفرح عندما يراها تزداد وتنمو .

لكن بعد فوات الاوان , يكتشف الانسان بأنه لا يملك شيئا , من ثرواته , او عقاراته , او حتى ارصدته في المصارف , فكل ذلك قد تحول الى سراب , وهم , الا كلُّ شَـيءٍ ما خَلا اللهَ باطِـلُ , وكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالةَ زائِـلُ .

المصيبة الاكبر والادهى , حين يعلم الانسان بأنه لا يملك حتى جسده , فالمالك الحقيقي للجسد هو الله , وليس للانسان فيه شئ , بل حتى الروح التي في جنبيه , هي نفحة من نفحاته جل وعلا , فما بقي للانسان اذا ؟! , فثروته التي كان حريصا على جمعها , وبيته الذي كان يؤويه , وجل ما كان يملك , قد عاد الى مالكه الحقيقي , حتى جسده وروحه ! .

لم يبق للانسان الا عمله , فهو جل ما يملك , ان كان خيرا , فإلى خير , وان كان شرا فإلى 

 شر .

يسافر العبد بمركب الجسد , فيتنقل في الخلق , فيرى جرمه الصغير , وحقارة امره , وتفاهة شأنه , بالنسبة الى عظيم ملكه تعالى , فينطلق في سفره الى ابعد من ذلك , يترك الخلق , ليسافر الى الحق , فيشاهد تجليات ملكه , وبديع صنعه , واسرار ملكوته , فيصيب منها ويغترف ما شاء الله , ويدرك عظمة خلق الانسان (( اتحسب انك جرم صغير , وفيك انطوى العالم الاكبر )) , ويعود من ذاك السفر , غير مكترث للعناء , عازما على سفر ابعد من ذلك , في طور اخر , بعد ان يستكمل سفره بين الناس .    

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{5}

العبادة ارتبطت بالانسان كظله , حتى صنع كل شعب آله يعبده , ويفزع اليه في الملمات , وعند الشدائد , ظنا منه انه ينجيه , ويقيم له الصلاة , بخضوع وخشية , ويقدم له القرابين , وكل شعب يختار زينة خاصة وعطر خاص , يتحفون به ألههم , بما يتناسب مع ثقافتهم , وموروثاتهم الاجتماعية .    

لم يترك الله جل وعلا الناس يتخذون إلهة حسب اهوائهم , وما تمليه رغائبهم , فأرسل انبيائه ورسله , وايدهم بالمعجزات الباهرة , والبراهين القاطعة , والحجج الساطعة , فآمن من أمن , وجحد من جحد , حيث ترك الله عزّ وجل للانسان حرية الاختيار بين النجدين .

الجدير بالذكر , ان العبادة ليست محصورة في الصوم والصلاة , والامر بالمعروف والنهي عن المنكر , وكافة اعمال الخير , بل جاء في بعض الكلمات النبوية الشريفة ان ساعة تفكر خير من عبادة سنة .

ومن متلازمات العبادة , الاستعانة , فبعد ان يختار الانسان ربا يعبده , يستعين به في قضاء حوائجه , وجلب المسرات والخيرات , ودفع الاهوال والشدائد , ومن اجدر بذلك غير الله تقدست اسمائه ! .  

من الملاحظ في الاية الكريمة , تقديم العبادة على الاستعانة , حيث تكون العبادة خالصة لله وحده , ولا تجوز لغيره , اما الاستعانة المطلقة به تعالى , ويمكن ان يستعين العبد ببعض الناس او الاشياء , لقضاء بعض الحوائج , وتسهيل البعض الاخر , فمثلا يجوز الشكر للخالق وللمخلوق ايضا , والاستعانة من الاشياء المشتركة بينه تعالى وبين خلقه , على ان تكون المطلقه له تعالى , والخاصة لعباده .

يسافر العبد مستعينا بعبادة جبار السموات والارض , فينطلق بين العباد , فيمعن النظر , ويتأمل في العباد ومعبوداتهم , فينظر الى ارجحهم عقلا , واحسنهم اختيارا , فيحكم عقله , ويحسن اختياره , فيختار احق الإلهة بالعبادة , واجدرها , فيستعين بالاله الواحد , ويسافر اليه , بكل حواسه ومدركاته , ليستلذ بلذة عبادته , ويحبوه ببعض اسراره , وتنكشف له بعض تجلياته , فيغترف حتى يروى , فيعود من سفره , وقد نهل من نبع عبادة الحق الصافي , ونال فيضا من فيوضها .

فقد ورد عن الامام علي (ع) انه قال : ( ما عبدتك خوفا من نارك , ولا طمعا في جنتك , انما وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك ) . 

اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6}

بعد ان ادرك العبد , بأن العبادة لا تكون الا لله وحده , والاستعانة المطلقة له تعالى , فيتوجه العبد بسؤاله ودعائه , والتضرع اليه , كي يرشده ويهديه للطريق القويم , الصراط المستقيم , خير الطرق واسرعها وصولا له جل وعلا . 

العبد في حالة نزاع دائم مع عدويين , هما الشيطان والنفس الامارة بالسوء , فكلاهما يزينا له , ويكيدا كيدهما ضده , فيرى العبد معصية الله جميلة , لذيذة , من غير ان يفكر بعواقبها , فيرى انه عاجز امامهما (العدويين) , ولابد له من هداية , تبين له حقائق الامور .

الصراط المستقيم , واضح كالشمس , لكن تعتريه سحب من الضباب لدى من وقع تحت تأثير العدو , فتطمس بصيرته , ويغشي الضباب عينيه الجارحتين , محدودتي البصر , فتلتبس عليه الامور , فيرى الحق باطلا , والباطل حقا , فلابد له من هاد , يقوده ويرشده الى ذلك الطريق , فمن سيكون هذا الهادي ؟ , فيعجز العبد عن ايجاد ذلك الهادي , فيسأل ربه بأن يرشده ويهديه الى من ينير له الدرب .   

بعد ان يجد العبد هاديا , يسافر في الصراط المستقيم , الذي لا اعوجاج فيه ولا تقسيم , فينطلق بعيدا عن عالمه , عالم المادة , ليلج في عالم جديد , عالم الملكوت , والروحانيات المقدسة , فيشاهد تجليات نور الهداية , ويقف على  اسرارها , فيصيب شيئا من انوارها , ويحثو على قدر ما يستطيع من مكنوناتها  , فيتزود للعودة , فلا يمكنه البقاء هناك اطول , فلم يحن الوقت بعد , ولا يملك القدرة على احتمال المزيد , فيعود غانما , وأي مغنم ! . 

 صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7}

يتأمل العبد في فئات ثلاث , فئة انعم الله عليها , وفئة مغضوب عليها , وفئة ثالثة ضالين , فيأمل ان يكون في افضلها , واحسنها مقاما , واكثرها قبولا عند الله تعالى وسمى , فقد حباهم بالنعمة , وابعدهم عن غضبه , وعصمهم من الضلالة .

يفرح الانسان ان حصل على نعمة زهيدة من ملك من ملوك الدنيا , فيتقرب اليه زلفى , لعله يحصل على المزيد , ويتنافس مع اخرين للحصول على مكانة خاصة لديه , فحاشية الملك لها هيبة الملك نفسه , وعكسه تماما من اغضب الملك , فيولي هاربا , تضيق عليه الدنيا بما رحبت , بل تسود في عينيه , حتى يفقد لذة الحياة , اما من ضل عن طريق الملك , فيكون بعيدا عن عطاياه , محروما من ثناياه , لا يحظى برعايته , منبوذا من خاصته , لانه قد ضل عن الولاء , فلا يهنئ العيش الكريم , ويعدم الكرامة , فكيف ان كان ذلك الملك هو جبار السماوات والارض ؟ , فأي نعمة يغدقها على عبيده المطيعين ؟! , والى اين المفر من غضبه ؟ , وكيف يهنأ العيش , وينال الكرامة من ضل عن سبيله ؟ .

يسافر العبد بين اولي النعمة , فيطلع على حالهم وحالاتهم , ويمر بطريقه على المغضوب عليهم , فيشاهد اوضاعهم , وينتقل الى الضالين , فيرى ما نالوا ونالهم , ويتنافس مع اولى النعمة , (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }المطففين26 , فيتقرب الى الله جل وعلا زلفى , خاضعا لربوبيته , مطيعا لأوامره , مجتنبا معاصيه , فيسمو وتعلو منزلته , بفاضل نعمائه , فيعود وقد ظهرت عليه اثار تلك النعمة .