الشيطان يخوف أولياءه

أ.د/ عبد الرحمن البر

أ.د/ عبد الرحمن البر

أخرج البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾» [آل عمران: 173]

وفي سيرة ابن هشام: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ﴾: أَيْ الْجِرَاحُ، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وَالنَّاسُ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ مَا قَالُوا، النَّفَرُ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ مَا قَالَ، قَالُوا: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ رَاجِعُونَ إلَيْكُمْ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ لِمَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ، أَيْ لِأُولَئِكَ الرَّهْطِ وَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾: أَيْ يُرْهِبُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ ﴿فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

إنها صورة متكررة على مدار التاريخ، أن يسعى الشيطان إلى تخويف المؤمنين، من خلال إرسال رسالة عبر أبواقه الإعلامية التي مهمتها بث الرعب وإثارة الفزع في قلوب الناس، يخوف المؤمنين بأن أولياءه يجمعون الجموع ويعدون العدة للانقضاض على المؤمنين واستئصال شأفتهم، ويروِّج لقوة وهمية كبيرة يزعم أنهم يمتلكونها، ويُظهرهم بمظهر القوة والقدرة، ويوقِع في النفوس أنهم ذوو قوة باطشة جبارة، وأنهم يملكون النفع والضر، وذلك ليحقِّق بهم الشر والفساد في الأرض، وليُخضِع لهم الرقاب، ويُطَوِّع لهم القلوب، ويوهمهم أنه لا تستطيع قوة معارضة أن تقف في وجههم، حتى لا يرتفع في وجوههم صوتٌ بالإنكار، ولا يفكر أحد في مواجهتهم أو دفعهم عن الشر والفساد، كل ذلك على أمل أن يضعف عزيمة المؤمنين، وأن يحبط أملهم، لكن الله تبارك وتعالى يدل المؤمنين على سبيل القصد، ويقول ﴿ فَلا تَخافُوهُمْ﴾ فهم أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته، ﴿وَخافُونِ﴾ وحدي، فإني كافيكم وناصركم، فالخوف من الله يقوِّي القلب، ويحرِّر النفس من الخوف من الخلق ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44] ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونَ﴾ [البقرة: 40]

ولهذا فإنني في ظل حالة التخويف التي يمارسها بعض المفسدين ضد شعبنا المصري الكريم أدعو إخوتي وأخواتي من أبناء مصر المحروسة بإذن الله إلى عدم الخوف إلا من الله القويِّ القاهر، والتحرُّر من الخوف من كل أولياء الشيطان في هذا العالم، واختيار طريق الحق والعدل، واستلهام قيم الإسلام والإيمان التي تحقِّق العزة والشرف والسيادة في الدنيا، والفرح والنعيم يوم الدين، كما أدعو الجميع إلى مراقبة الله عز وجل، وتقديم الخوف منه على الخوف مما سواه، ومراقبته في السر والعلن، والتحرر من كل صور الخوف من الخلق، والالتفاف حول المشروع الإسلامي والمنهج الإسلامي الذي لا سبيل لعزة الأمة سوى الاستمساك به والتفاعل الجاد والإيجابي معه، والأخذ على يد كل من يعتدي على حرمات الناس وأموالهم ودمائهم، وانتظار ساعة النصر، وما هي عنا ببعيد.

وأقول لكل أولئك المخوّفين ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ (الزمر: 36، 37).

يذكر المؤرخون أن رجلاً من روم العرب قال لخالد بن الوليد حين قدم إلى الشام مغيثًا لأهل اليرموك: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك! أتخوِّفني بالروم؟ ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان؛ لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر (يعني فرسه) بَرَأَ من توجُّعه وأنهم أضعفوا في العدد. (وكان فرسه قد حفي في مسيره واشتكى في مجيئه من العراق)، فهزمهم الله على يديه.

ويقيني أن الله تعالى سيهزم كل مفسد وسينصر هذا الشعب العظيم، وستبقى مصر محروسة بحراسة الله على الدوام.

وأقول لرجال الأمن: مسؤوليتكم العظمى بين يدي الله توجب عليكم أن تكونوا عند حسن ظن شعبكم، وألا تسمحوا لمجرم أو مفسد أن يغتال أمن هذا الوطن الذي أنتم حراسه، وأن تقفوا بكل حزم وحسم أمام كل من يهدد أمن الوطن والمواطنين، ويقيني أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأن الشعب الأصيل سيكون ردءا وظهيرا لكم في مهمتكم السامية، وأن الأمة ستتخطى مرحلة التخويف غلى الأمن التام بإذن الله ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم ﴾

ورسالتي لكل مخلص يحب هذا الوطن أيا كان اتجاهه الفكري أو السياسي: أن ندع التنازع والتفرق، وأن نتلاقى على حب هذا الوطن العزيز الذي يضمنا جميعا وتضمه جوانحنا وقلوبنا، وألا ندع البلطجية والمفسدين يملون علينا إرادتهم، وألا نعطي أي غطاء أو أي مبرر لمن يريد إشعال الفتن وسفك الدماء، فسفينة الوطن تحمل الجميع، وإن انخرق جزء من قعرها فإنها ستغرق بجميع من فيها، ولهذا فعلى جميع العقلاء والحكماء فيها ألا يعطوا أي فرصة لمن يريد خرقها، وأن نقف جميعا بكل قوة وقبل فوات الأوان في مواجهة أي اعتداء على الأرواح أو الممتلكات، وأن نستجيب جميعا لدعوة المصالحة الوطنية التي أطلقها السيد رئيس الجمهورية، والتي ينبغي ألا يتأخر الغيورون على هذا الوطن عن المشاركة فيها؛ حماية للوطن ودرءا للأخطار عنه.

المساجد والعلماء:

دعاني إخواني الكرام في مدينة الإبراهيمية بمحافظة الشرقية لإلقاء محاضرة دينية بأحد مساجد المدينة بين صلاتي المغرب والعشاء، ولم نكد ننتهي من صلاة المغرب ونتهيأ لبدء الدرس حتى فوجئنا بأصوات عالية خارج المسجد تدعو للرحيل، وتهتف بألفاظ وعبارات بعضها ساقط وبعضها غير مفهوم، فطلب الإخوة المنظمون من كل رواد المسجد أن يلتزموا الهدوء، وألا يغادر أحد مكانه، منعا لحصول أي احتكاك بين المصلين وبين هؤلاء الصبية الذين يقودهم بعض أذناب النظام البائد والذين يحملون العصي والأسلحة البيضاء، واستجاب الجميع في المسجد لهذا التوجيه، وبدأت المحاضرة بتلاوة آيات من كتاب الله العزيز، ثم بدأتُ الحديث عن الأمة الواحدة، ووجوب الائتلاف وترك التنازع، وأصول الأخوة الإسلامية التي تجمعنا جميعا، ودورنا في تدعيم هذه الأخوة وإعلاء قيم التعاون والمحبة، بدلا من الحقد والتنازع، ولكن هيهات أن يستمع هؤلاء الصبية ومن يقودهم لشيء، بل زادت أصواتهم ارتفاعا وألفاظهم قباحة، ثم اندفعوا يريدون اقتحام المسجد والاعتداء على المصلين الآمنين، بعد أن قذفوا باب المسجد بالحجارة، فتصدى بعض المصلين لهم وقاموا بإغلاق الباب منعا إراقة الدماء، وتحمل عدد منهم في سبيل ذلك إصابات متعددة، لكنهم تمكنوا من إغلاق باب المسجد، وأنهيت الدرس، وطلبت من الحاضرين في المسجد التزام الهدوء التام، وكان بعضهم قد بدأ يتصل بعائلته واقاربه للحضور، فرجوت الجميع ألا يستدعوا أحدا، حتى نتجنب حدوث أي فتنة بين الأهالي وبين هؤلاء البلطجية وأهالي هؤلاء الصبية، وقمت بالتواصل مع الجهات الأمنية التي قامت مشكورة بالتواصل المستمر والترتيب لإحضار تشكيلات أمنية للمساعدة في فك الحصار عن المسجد وإخراج المصلين، وتم ذلك بالفعل في حوالي الساعة العاشرة مساء والحمد لله.

تلك هي قصة حصار مسجد الإبراهيمية باختصار شديد، وهي تشير إلى تحول مريع في الحالة الأخلاقية لهذه الفئة من الشعب، وهو تحول ينذر بكوارث خطيرة، حيث صار حصار بيوت الله وحبس المصلين الآمنين بداخلها صورة من صور التعبير عن الرأي، وكأننا عدنا إلى عصور الجاهلية الأولى ﴿أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى﴾.

لقد بقي المسجد محل احترام وتقدير المصريين حتى من غير المسلمين، وأكثرها أمانا، حتى في ظل الفتن الكثيرة التي مرت بالأمة، وأيا كان نصيب المصري من التدين أو عدم التدين فإن الجميع كانوا يحرصون غاية الحرص على عدم الاقتراب من ساحات المساجد، حتى نبتت هذه النابتة العجيبة ممن لا يحفظون هذه الحرمة لبيوت الله، فرأينا حصارا لمسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية ثم حصارا لبعض المساجد في مدن مختلفة، ثم حصارا لمسجد الإبراهيمية بالشرقية، ثم حصارا لمسجد الجمعية الشرعية بالمنصورة، والله أعلم ما هو التالي.

إنها مسألة خطيرة للغاية تستوجب وقفة قوية من الجميع مؤيدين للنظام أو معارضين له، رسميين أو شعبيين، وتستوجب وقفة قوية من مؤسسة الأزهر والأوقاف حيال الاعتداء على بيوت الله وعلى علماء الدين والأزهر، وتستوجب من كل السياسيين أن يبادروا إلى إعلان موقفهم مما جرى من حصار لبيوت الله وللعلماء، وهم الذين لا يتأخرون لحظة عن رفع الصوت عند أي شبهة إساءة لمن يكون على رأيهم أو يوافق منهجهم. فهل سنرى من كل هذه المؤسسات والهيئات والأشخاص مواقف واضحة تدين هذه الإساءات البالغة، وهل سنرى مواقف قوية مناسبة لجلال المسجد ولقيمة العلماء؟ إنا لمنتظرون.