أتموا يتمم الله عليكم

لطفي محمد الزوقة

حينما نزل قول الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا)

فقه سيدنا عمر منها فقهًا عجيبًا وقال كلمة أعجب؛ حيث قال: ما تم شيء إلا بدأ نقصانه.

وأظنني أراه  يقصد أنه ستبدأ حلقه جديدة من الصراع بين هذا الدين الذي سيطر وانتصر وبين المعارضين له من أجل هزيمته وإزاحته ومن ثم نقصانه.

فإن الصراع والتدافع بين الأفكار المختلفة باقٍ دائمًا في توتره وإن خفت في بعض الأحيان حدته، وأن انتصار فكره على أخرى لا يعني انتهاء الصراع والتدافع  بينهما، ولكن ستتغير القيم التي يدور حولها الصراع، فبدل أن يكون حول السطوة والغلبة والسيطرة، سيتحول إلى مناطق أخرى

وفي الغالب تكون مناطق الصراع الجديدة حول قيم المنتصر والمسيطر نفسه، فتحاول التيارات المخالفة إشغاله وزحزحته عن قيمه التي كانت سببًا في تفوقه ونصره، ويحاولون التشكيك والتحوير والإلهاء لجر هذا المسيطر الجديد إلى منطقة خارج قيمة الأساسية حتى تسهل هزيمته.

ولذلك على معظم أبناء التيار الإسلامي- والإخوان على وجه الخصوص- أن يتركوا الأحزاب الإسلامية تعمل هي بما لديها من أدوات وأفراد في مجال السياسة، وندعمها نحن في الصفوف الخلفية بالحفاظ هويتنا الإسلامية الحقيقة حتى لا يلحقها زيف ولا تشويه جراء العمل السياسي البحت، وألا ننشغل بالنظر إلى مغانم ومناصب، وإنما  ينصب جل جهدنا في الحفاظ على قيمنا الإسلامية وعقائدنا الإيمانية

وأخلاقنا الأساسية باقية كما هي في وضوحها وصراحتها، بعيدًا عن التشدد الغالي أو الترخص الجافي؛ من أجل أن نظل نعمل في مناطق قوتنا ومصدر عزتنا ومجلب النصر الرباني والدعم الإنساني؛ لأننا إن خرجنا من مناطق قوتنا هذه وذهبنا نتعامل بأخلاق غيرنا ووسائلهم في المنافسة والسيطرة، يحدث ذلك تشتتًا روحيًا للأجيال التالية مما يفقدها الحماسة للعمل من أجل الحفاظ على ما حقق من نصر وتمكين؛ لأنهم أخذوا مبدأً مهزوزًا لم يضحّ أصحابه من أجله فأصابه التشويش ولحقه الزيف؛ ولأنه رأى أصحابه حريصين على يومهم يمسكون به ويريدون ما فيه من غنائم ومنفعة.

أما العمل الصحيح أن نبقى دعاة مخلصين لا يهمنا من يومنا إلا أن نضع فيه عملاً صالحًا ثم يرحل، وعيننا على الغد المرتقب؛ حيث لا بخس ولا فوت.

فإن ترك العمل الدعوي حيث الأخذ بيد طفل إلى ساحة مسجد نحفظه آية أو إلقاء موعظة على غافل نرده بها إلى الله، والظن بأننا انتصرنا وتمكنا ولا شيء بعد ذلك يعد من باب الغفلة والغرور.

وقديمًا قالوا ثنائية السقوط: يأس وقنوط عند هزيمة، وغفلة وغرور عند نصر.

فالعمل العمل، وأتموه بالإخلاص يتم الله علينا نصره وتمكينه.

إن إقامة الدولة جزء من المشروع الحضاري الإسلامي، وهي الناتج النهائي للتربية المجتمعية، وهي جاءت الآن بعد تضحيات طويلة من التيار الإسلامي في مصر والعالم، والإخوان في القلب من هذا التيار،

ولكنني أريد أن أنبه أنها جاءت قبل اكتمال مرحلة التربية المجتمعية، ولذلك وجب علينا استكمال هذه المرحلة التربوية من أجل الحفاظ على الدولة الناشئة ذاتها،

ويجب عدم انشغال كامل التيار الإسلامي بالمناكفات السياسية والحسابات الحزبية

بل لا بد من أن يكون الجزء الأكبر من حركتنا موجه إلى التربية الإسلامية الصحيحه للمجتمع،

نصحح العقيدة، نثبت العبادة، ندعم الأخوة، نقوم الأخلاق، نهذب الطبع الجامح، ننشط البدن الكسول، نوجه العقل العليل ليرمق الآفاق؛

لنخرج في النهاية ذلك المسلم المتزن الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وتلكم المجتمع الحر الذي يدافع عن خياراته، وفي هذا حفاظ على مرحلة الدولة التي أكرمنا الله بها.

في منهج الإسلام الإنسان قبل الحكام،

وفي خطاب القرآن القلوب قبل النظام،

وفي منهج التربية الصحيحة الضمير قبل القانون،

وقلة القوانين في القران ملاحظة معتبرة؛ لان كثرة القوانين تعني مجتمعًا باليًا يحتاج إلى تهذيب

أما قلة القوانين فتدل على مجتمع ناضج تلقى قسطًا وافرًا من التربية الصحيحة فتركت آثارًا.

ولذلك تجد أن عدد آيات القران 6236 أيه ، آيات الأحكام الصريحة منها 150 آية كما ذكر ابن القيم

أما باقي الآيات فإنها توجهت بالتربية إلى القلوب والعقول والضمائر؛ حتى إذا نزلت الأحكام فلا تحايل ولا التفات.

فكان نتاج هذه التربية - كمثالا فرديا - هذا الصحابي الفذ مرثد بن أبي مرثد الذي سمع آية تحريم الزنا فوعاها

وعندما قابل معشوقته القديمة عناق في صحراء قريش في ليل لا شاهد فيه غير الله، وفي وحدة لا يؤثر فيه إلا الضمير الحي،

فقالت له: يا مرثد هلم بت عندنا الليله،

فقال لها بلا تلعثم: يا عناق إن الله حرم الزنا.

وتركها وانصرف،

هكذا بكلمة واحدة ينهي هذا الموقف الصعب الذي قد يسقط فيه آلاف المشرعين الذين شرعوا قبل أن يربوا، أما الإسلام فانه ربى قبل أن يشرع فكانت هذه النتيجة المبهرة.

وكمثال على التربية المجتمعية الصحيحة، عندما نزلت آية تحريم الخمر سكب الناس ما لديهم من خمر حتى جرت شوارع المدينة بها فلا اختباء ولا تأويل ولا تمرد.

إن الدولة الإسلامية الحقيقية هي التعبير الواقعي- لا المنبري- عن مفاهيم الدين وقيمه وأخلاقه.

فلنتوجه إلى إنتاج المثال قبل طرح المقال، والى تأدية الرسالة قبل إنشاء الإدارة،

**************

والله الموفق وهو الهادي إلى سمواء السبيل

ولا تنسونا من صالح دعائكم