أكلُ ذوات النَّاب

د. محمد عناد سليمان

تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

]قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}الأنعام145.

أشرنا في مقال سابق بعنوان «الحلال والحرَّام» إلى أنَّ مسألة تحديد «الحلال» و«الحرام» لم يكنْ متروكًا لبشر خلقه الله سبحانه وتعالى، سواء أكان «رسولاً»، أم «نبيًّا»، أم «وليًّا»، أم «فقيهًا»، أم «مجتهدًا»؛ بل إنَّ من ادَّعى ذلك فقد أدخل في «دين الله» ما ليس فيه؛ لأنَّ الله الخالقَ هو العالم بما يصلحُ عبادَه، ويعلم الغيب المستقبليّ لهم، ولا يكون هذا لبشَرٍ.

وقد نبَّه بعضُ العلماء والمفسِّرين على هذه الحقيقة، ومنهم «الفخر الرَّازي» حيث قال: «أنَّ التَّحريم والتَّحليل لا يثبتُ إلا بالوحي»، ونظيره قول «أبي حيَّان»: «لمَّا ذكرَ أنَّهم حرَّموا ما حرَّموا افتراء على الله، أمره تعالى أن يخبرهم بأنَّ مدرك التَّحريم إنَّما هو بالوحي من الله تعالى، وبشرعه، لا بما تهوى الأنفس، وما تختلقه على الله تعالى»، وجزم بذلك «البغويُّ» فقال: «ثمَّ بيَّن أنَّ التَّحريم والتَّحليل يكون بالوحي والتَّنزيل»، ولم يوحَ إلى النَّبيّ e غير «القرآن الكريم» بخلاف من زعمَ أنَّ «السُّنَّة» أيضًا وحيٌ من الله، فهو تقوَّلٌ على الله عزَّ وجلَّ وعلى رسوله e بما لا يعلمُ.

وقد يرى بعضُ المرجفين والخائفين الذين يدَّعون ظلمًا وزورًا دفاعهم عن «السُّنَّة» بأنَّنا في هذا القول نريدُ نسفَ «السُّنَّة» بزعمهم، أو هدمَها، وهو قول باطلٌ، وافتراءٌ ظاهر؛ لأنَّ مسألة «السُّنَّة» نراها على غير ما يرونها هم، فنحن نراها و«القرآن الكريم» شيئًا واحدًا؛ لأنَّ النَّبيَّ eجاء مبلِّغًا، ومبيِّنًا لما وردَ في كتاب الله، ولا ينبغي أن يخالف «الأحكام» التي وردتْ فيه بزيادة أو نقصان، أو تحريف تأويل، بينما يراها الآخرون قسمًا كاملاً في مقابل «القرآن الكريم»؛ بل ويرون أنَّ «السُّنَّة» تنسخ آيات منه كما سيأتي بيانه، ويزعمون أنَّ كلَّ مرويَّة أو خبرٍ ثبت صحَّته سندًا «سُنَّة»، وأنَّها حاكمة وقاضية على كلام الله سبحانه وتعالى، وهو ما نرفضُّه ونردُّه.

وتعدُّ هذه الآية من سورة «الأنعام» من الآيات المشكلة التي اختلف العلماء فيها اختلافًا كبيرًا، ونعرضُ هذا الخلاف في خمس مسائل:

الأُولى: أنَّ هذه الآية «مكيَّة»؛ لأنَّ «السُّورة» كلَّها «مكيَّة» إلا آيتين منها في قول «الكسائي»، نزلتا «بالمدينة»، بينما نجدها وصلت إلى ستِّ آيات منها في قول «ابن عبَّاس»: «نزلت ليلا بمكَّة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتَّسبيح، إلا ستَّ آيات»، ونجدها ثلاثة عند «مجاهد»، و«الكلبي»، وقد وقعتُ على قول لـ«كعب الأحبار» فيما يرويه «ابن عطيَّة» أنَّ بعض «آيات» هذه «السُّورة» هي ذاتها «آيات» وردت في «التَّوراة» فقال: «فاتحة التَّوراة فاتحة الأنعام: «الحمد لله»، إلى «يعدلون»، وخاتمة التَّوراة خاتمة هود: «وما ربُّك بغافل عمَّا تعملون»، ولعلَّ في هذا القول دليلاً آخر يُضاف إلى ما ذكرناه سابقًا من أنَّ في «القرآن الكريم» آيات بنصِّها من الكتب السَّابقة.

بينما ذهب «ابن العربيّ» إلى أنَّ الآية «مدنيَّة» بخلاف الأكثريَّة من أقوال العلماء، وينبني على هذا الزَّعم حكمٌ يتناول ما تضمنَّته الآية من محرَّمات نوضحِّها في موضعها.

الثَّانية: أنَّ القرَّاء اختلفوا في قراءتها، فروي عن «ابن عامر» أنَّه قرأ «أَوحى» بفتح الهمزة، وهو الأرجح لأنَّها أقوى في الدَّلالة على الله سبحانه وتعالى، بينما الضَّمَّ يجعل من «الفاعل» مجهولا، وقرأ «عليّ بن أبي طالب» رضي الله عنه «يطَّعمه» بتشديد «الطَّاء»، وقرأت «عائشة» رضي الله عنها «على طاعم طَعَمه» بفعل ماضٍ.

أمَّا قوله تعالى: «إلا أن يكون ميتة»، فقرأ بعضُ أهل «المدينة» و«الكوفة» و«البصرة»: «إلا أن يكون» بالياء، و«ميْتةً» بالتَّخفيف والنَّصب، وقرأ بعض قرَّاء أهل «مكَّة» و«الكوفة» «إلا أن تكون» بالتَّاء، و«ميتة» بالتَّخفيف والنَّصب كذلك، بينما قرأ بعض المدنيِّين بتشديدها مرفوعة، ورجَّح «الطَّبريُّ» قراءة الياء في «تكون»، والتَّخفيف والنَّصب في «ميتة».

الثَّالثة: هل هذه الآية «محكمةٌ» أم «منسوخة»؟ روي عن «ابن عبَّاس»، و«ابن عمر»، و«عائشة» رحمهم الله أنَّ هذه الآية «محكمة»، لا نسخ فيها، كما يورده «القرطبيّ» من قوله: «وقد قيل إنَّها منسوخة بقوله e: آكل كلّ ذي ناب من السِّباع حرام، أخرجه مالك». وقال «أبو حيَّان»: «واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة وهو قول الشَّعبيّ وابن جبير»، و«قيل هي منسوخة بآية المائدة» وبيَّن نوع «النَّسخ» فيها فقال: «وينبغي أن يفهم هذا النَّسخ بأنَّه نسخ للحصر فقط، وقيل: جميع ما حرَّم داخل في الاستثناء، سواء أكان بنصِّ قرآن أو حديث عن الرَّسول eبالاشتراك في العلَّة التي هي الرجسيَّة».

وهذه الآية من الآيات الكثيرة التي اختلف العلماء فيها من حيث نسخها وإحكامها، ممَّا ينهضُ دليلا قويَّا على أنَّ قضيَّة «النَّاسخ والمنسوخ» هي قضيَّة لا تثبتُ عند التَّحقيق كمَّا بيَّنا سابقًا؛ لأنَّه يفتح الباب واسعًا أمام القول بتحريف «القرآن الكريم» لفظًا، وتأويلا، وكذلك «الأحكام» التي تنبني عليه، وقد لخَّصنا ما وصلنا إليه من البحث فيها إلى النَّتائج التَّالية:

أولًا: تعطيل الأحكام الشَّرعيَّة بما لا تتناسب مع واقعها، بحجَّة أنَّها «منسوخة»، وهي أحكام كثيرة جدًّا، يمكن مراجعتها في كتب «الفقه» ليقف القارئ على التَّناقض الواضح، والتَّعارض الصَّريح لنصّ «القرآن» الكريم نفسه، بل إنَّهم جعلوا «الحديث» حَكَمًا على «القرآن» بحيث يمكن لـ«الحديث» أن يبطل «القرآن» على نحو ما فعلوا فيما نسبوه للنَّبيّ r: «لا وصية لوارث»، و«حدّ الرَّجم» وغيرها.

بل إنَّ بعضهم قد تعدَّى «الحديث» ليجعل من رأيه حَكَمًا على «القرآن» فإن وافقه لم يقل بـ«النَّسخ» فإن خالفه قال به، على نحو ما يذكره «الفخر الرَّازي» حيث قال: «المسألة الثانية: إن فسَّرنا الآية بأنَّها تدلُّ على تجويز التّوجّه إلى أيّ جهة أريد، فالآية منسوخة. وإن فسَّرناها بأنَّها تدلُّ على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فالآية ناسخة، وإن فسَّرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة».

يظهر أنَّهم يجعلون «الآية» نفسها «ناسخةً» تارةً، و«منسوخة» تارة ثانيةً، ولا هذا ولا ذاك تارة ثالثة، وهو عبثٌ ما بعده عبث بـ«آيات» الله سبحانه وتعالى.

ثانيًا: وضْع أحاديث كثيرة ونسبتها زورًا وبهتانًا إلى النَّبيّ r لتثبيت الأحكام الجديدة مكان المعطَّلة، إضافة إلى عدم تمكُّنهم من تغيير نصِّ «القرآن» الكريم المتكفَّل بحفظه، فكانت «الأحاديث» مادَّة خصبة يستخدمونها كيفما شاؤوا، ولم يكن «التَّأويل»، و«التَّفسير» إلا رافدًا لهذه «الأحاديث» ومؤِّيدًا لها.

ثالثًا: عدم اتّفاقهم على «الآيات» النَّاسخة، و«الآيات» المنسوخة، فقد تكون عند بعضهم «ناسخة»، وقد لا تكون عند بعضهم الآخر كذلك، على نحو ما ذكره «الفخر الرَّازي» حيث قال: «المسألة الأولى: قال بعضهم هذه الآية منسوخة، وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على المسلمين؛ لأنَّ حقّ تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل الله تعالى بعد هذه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ونسخت هذه الآية أوَّلها، ولم ينسخ آخرها وهو قوله {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، وزعم جمهور المحققين أنَّ القول بهذا النَّسخ باطل واحتجُّوا عليه من وجوه». وفي موضع آخر قال: «ومن الجهَّال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلم، وهذا لا يصير منسوخًا». وفي موضع ثالث يقول: «واختلفوا في أنَّها هل نسخت أم لا ؟ فذهب السّواد الأعظم من الأمّة إلى أنّها صارت منسوخة، وقال السَّواد منهم: إنَّها بقيت مباحة كما كانت»، ونظيره ما ذكره «القرطبيُّ» في مواضع مختلفة في تفسيره منها قوله: «تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه. الآية. للعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما: أنَّها منسوخة، والثَّاني: أنَّها محكمة».

 ولو أردنا تتبَّع مواضع الاختلاف في ذلك لما كفانا مجلَّدٌ أو اثنين، ويكفي هذا العلم ضعْفًا وسقوطًا كثرة اختلافاتهم فيه، وهو من عند أنفسهم، أمَّا كلام الله فهو القائل فيه { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} النّساء: 82.

لذلك أرى أنَّ «النَّاسخ» و«المنسوخ» مسألة يجبُ هدمُها من أساسها؛ لأنَّها لم تبنَ على أصل شرعيّ صحيح؛ بل هي دخيلة على الفكر العربيّ في عصر متأخِّر، حاول العابثون إخضاع «القرآن» الكريم لها، ليعطِّلوا من «أحكام» و«حدود» الله ما لا يناسب واقعهم وأهواءهم، ويثبتون من خلالها أوهامًا، أصبحت مع طول الفترة الزَّمنيَّة شرعًا حلَّ محلَّ «الشَّرع القرآنيّ» نفسه، فضلُّوا وأضلُّوا.

الرَّابعة: بناء على اختلافهم في أنَّها «محكمة» أو «منسوخة»، أو أنَّها «مكيَّة» أو «مدنيَّة» وقع الاختلاف في أحكامها، وهو ما يشي بضرورة إعادة النَّظر في هذه الأحكام اعتمادًا على «القرآن الكريم» نفسه.

قال «مالك»: «لا حرام بيِّن إلا ما ذكر في هذه الآية»، ممَّا يشير إلى أنَّ ما سواها مباح عنده، ونبَّه عليه «خليل» حيث عطف على «المباح» فقال: «وطير ولو جلالة وذا مخلب»، وقال «الخرشيّ» في شرحه: «هذا هو المشهور»، وفي «المدوَّنة» عن «ابن القاسم» قال: «لم يكن مالك يكره أكل شيء من الطَّير سباعها وغير سباعها»، والظَّاهر أنَّ «مالكًا» لم يحرِّم ذلك، وإنّما الخلاف وقع في فهم اللاحقين له، إذ نصَّ في «الموطَّا» أنَّه حرام فقال: «حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ»وقال «مالك»: وهو «الأمر عندنا»، لكنَّ «الزَّرقانيّ» في شرحه أشار إلى أنَّ رواة «الموطَّأ» لم يوافقوا «مالكًا» في رواية «الخشنيّ» بلفظ «حرام»، فقال: «قَالَ يَحْيَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ رُوَاةِ ابْنِ شِهَابٍ وَإِنَّمَا لَفْظُهُمْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ». لأنَّ لفظ «حرام» كما يقول «التَّرمذيّ» شذَّ فيه «يحيى».

بينما ذهب آخرون إلى أنَّ هذه الآية تضمَّنت تحليل كلِّ شيء من «الحيوان» وغيره إلا ما استثني منه فيها من «الميتة»، و«الدَّم المسفوح»، و«لحم الخنزير»، وهو منسوب إلى «ابن خويز منداد»، وقال «الكيا الطَّبريّ»: «وعليها بنى الشَّافعي تحليل كلِّ مسكوت عنه» آخذًا من هذه الآية إلا ما دلَّ عليه دليل». وقال «ابن العربيّ» الذي يراها «محكمة» لا «منسوخة»: «لا محرّم إلا ما فيها، وإليه أميل». وقال «القرطبيّ»: «وهذا ما رأيتُه قاله غيره».

ولعلَّ خلافهم في ذلك ناتج عن مكان نزولها، فمنهم من قال: إنَّها مكيَّة، وهم الأكثريَّة، ومنهم من قال: إنَّها مدنيَّة، «وهذا هو مثار الخلاف بين العلماء، فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنَّهي عن أكل كلِّ ذي ناب من السِّباع؛ لأنَّها متأخِّرة عنها، والحصر فيها ظاهر، فالأخذ بها أولى».

وقد رويَ عن «ابن عبَّاس»، و«ابن عمر» و«عائشة» رحمهم الله إباحةُ أكلها، وهو قول «الأوزاعيّ»، وروى «البخاريّ» في «صحيحه» أنَّ «عمرو بن دينار» قال: «قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ حُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ؛ وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ : « قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا».

وروي أيضًا عن «ابن عمر» أنَّه سئل عن لحوم «السِّباع» فقال: «لا بأس بها»، فقيل له: «حديث أبي ثعلبة الخشنيّ» فقال: «لا ندعُ كتاب الله ربِّنا لحديث أعرابيّ يبول على ساقيه»، وسئل «الشّعبيّ» عن لحم «الفيل»، و«الأسد» فتلا هذه الآية، في إشارة إلى تحليلها، وقال «القاسم»: «كانت عائشة تقول لمّا سمعت النَّاس يقولون: حرّم كلّ ذي ناب من السِّباع: ذلك حلال، وتتلو هذه الآية».

تظهرُ في هذا النَّقل ضرورةُ عرْض «الأخبار» و«الرِّوايات» على نصِّ «القرآن الكريم» ونبْذ ما خالفه، وإن كان حديثًا صحيحًا كما في حديث «الموطَّأ»، وهو ما ندعو إليه، وليست بدْعة ضالَّة على نحو ما يحاول كثيرٌ ممَّن جعل لهذه الأخبار والرِّوايات قداسة لقداسة قائليها أن يصوِّرَها للنَّاس، فكتاب الله أولى بالحقِّ والاتِّباع.

وكذلك اختلفوا في جواز أكل «الحشرات»، و«اليربوع»، و«الفأر»، و«الورَل»، و«البغال»، و«القنافذ»، و«الضَّفادع»، «والدُّود»، و«الأفاعي»، و«العقارب»، و«الهرّ» وغيرها اختلافًا كبيرًا بين مانع ومجيز، وهنا نصل إلى المسألة الخامسة والأخيرة.

الخامسة: بعدَ عرْضِ هذه الأقوال التي هي غيض من فيض في فهم وتأويل الآية السَّابقة من سورة «الأنعام»، فلنا أن نسأل: أين الصَّواب من هذه الأقوال كلِّها؟ وهل الصَّحيح منها: التَّحليل أم التَّحريم؟ وهل ينبغي أن يبقى هذا الخلاف قائمًا إلى ما لا نهاية؟ وهل يجب علينا أن نبقى مذعنين لبعض العلماء الذين يقولون: في المسألة رأيان أو أكثر؟ أيُعقل مثلا أنَّ دولة «المغرب العربيّ» التي تحتكم في أمور دينها إلى المذهب «المالكيّ» بقوَّة «السُّلطة» أن تحلِّل أكلَ «ذوات النَّاب» وغيرها، بينما تحرِّمُ جارتُها ذلك؟ أليس هذا استهزاء بالدِّين وأحكامه التي بيَّنها الله في كتابه العزيز، وليس اختلافًا؟

والذي نرجِّحه ونميل إليه أنَّ الآية السَّابقة نصَّت على تحريم أربعة أشياء فقط، وما سواها حلال، ولا الفتات إلى ما خالفها من «حديث»، أو «اجتهاد»، أو «فهم محرَّف»، يدلُّنا على ذلك قوله تعالى في الآية نفسها: ]قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}الأنعام145. فلفظة «قل» خطابٌ إلى النَّبيّ e بضرورة تبليغ ذلك، ولفظة «ما أوحيّ إليَّ» تقطع الطَّريق على من يدَّعي أنَّ رسول الله e قد يقول بخلاف ما أَمره الله بتبليغه، ولو سلَّمنا جدلا برأي من ذهب إلى أنَّ «السُّنَّة» وحي بزعمه، فإنَّ هذه اللَّفظة العامّة «أوحي إليَّ» تجمع ذلك وتنصُّ عليه، وتتناول كلَّ ما كان وحيًا سواء أكان ذلك الوحيُ قرآنًا أم غيره.

فإن قلتَ: إنَّ بعض العلماء والفقهاء قد خصَّصوا عموم هذه الآية بما ورد عن النَّبيّ e قوله: «ما استخبثه العرب فهو حرام»، قلتُ: هي قاعدة لا تصحُّ، ولا يمكنُ ضبطها؛ فما يكون خبيثًا عند قوم لا يكون عند غيرهم كذلك، وبالتَّالي فإنَّ الأمر عائد إلى الخلاف ثانية، فبعض قبائل العرب فيما يذكره «القرطبيّ» كانت تأكل «الكلب» فقال: «زعم ناس أنَّه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قومٌ من فقعس»، والمسألة مرتبطة بقبول النَّفس لذلك أم لا، فكم من طيِّبات أحلَّها الله تعافها النَّفس ولا تقبلها، ولا علاقة لذلك ب«التَّحليل» أو «التَّحريم»، ونظيره ما قاله «الرَّازيُّ» في ذلك: «فسيِّدُ العرب، بل سيّد العالمين محمَّد صلوات الله عليه لمَّا رآهم يأكلون الضَّبَّ قال: يعافه طبعي، ثمَّ إنَّ هذا الاستقذار ما صار سببًا لتحريم الضَّبّ. وأمَّا سائر العرب من لا يستقذر شيئًا، وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها قومٌ آخرون، فعلمنا أنَّ أمر الاستقذار غير مضبوط، وهو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النَّص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معيِّن ولا قانون معلوم؟».

إضافة إلى أنَّ اعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يبيِّن لنا أنَّ «المحرَّمات» في هذه الآية قد بيَّنها تعالى في موضع آخر، وأوردها بأداة الحصر «إنَّما» لتخصيصها دون غيرها، وتحليل ما سواها فقال تعالى: ]إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}البقرة173، وقال أيضًا: ]إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل115. والله تعالى أعلم.