من مقامات الربانيّين

عبد العزيز كحيل

[email protected]

المسلم إنسان من الناس وبشر من البشر، لا يُطلَب منه أن يخرق العادات ولا أن يكون بطلاً أسطوريًّا، ولكنّه حين يلتزم بدينه ويفقه عن ربّه يُصبح خلقًا آخر في تعامله مع الله ومع الناس، إنه يغدو ربانيًّا كما أمر الله تعالى: " ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " – سورة الأعراف، والرباني هو المتلبّس بجميع صفات العبودية لله، إيمانًا وإسلامًا للوجه وتوكّلا على الله ومراقبةً له في الخلوات والجلوات، هو مع الناس بحواسّه ومع ربه بوجدانه، يعيش في الدنيا ويعمُرُها ولا يعيش لها، لأنه من أبناء الآخرة، لا ترنو نفسه ولا يشرئبّ عنقه إلا إلى جنّة الفردوس.

ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله للإنسان الرباني – وسمّاه صاحب التجريد – خمس خلال كريمة تصبّ كلّها في خانة حسن التعامل مع الله تعالى بامتلاء القلب بوعده ووعيده واستقامة السلوك استقامة تتصاغر دونها رغبات البشر في السؤدد ورفعة المكانة، يقول رحمه الله:" صاحب التجريد لا يستغني إلا بالله ، ولا يفتقر إلا إلى الله ، ولا يفرح إلا بمرضاة الله، ولا يحزن إلا على ما فاته من الله ، ولا يخاف إلا من سقوطه من عين الله. "

هذه الصفات كلّها من أعمال القلوب، والقلب هو محلّ نظر الله، ترتبط استقامة السلوك باستقامته على طريق السلامة والطهر والوَجل والإخبات، فالصلاح صلاح القلب والفساد فساده، وكلّما كان ارتباطه بخالقه أوثق حظي بالمدد الرباني وتدرّج في مدارج الرقيّ الروحي والكمال الإنساني، ولا يحصل ذلك إلا بأنواع من المجاهدة تقمع نزوات النفس وتكابد الطاعات والقُرُبات.

·       لا استغناء إلا بالله: ليست المسألة مسألة ثراء فاحش ولا أموال طائلة، إنما هي القناعة التي تكفي المؤمن الرباني فتكون الدنيا في يده لا في قلبه، لا يسترقّه حُطامها مهما تزيّن وتبرّج لأن روافد الإيمان تكلأه في كلّ حين :

يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغنيّ الحميد – سورة فاطر 15

ما عندكم ينفد وما عند الله باق – سورة النحل 96

قد يكون فقيرا مُعدَمًا قليلَ ذات اليد لكنّ غناه في قلبه ، وقلبه مع ربّه، ومن وجد اللهَ فماذا فَقَد؟ وإذا لم يُرزَق الإنسان القناعة فلن تكفيَه الدنيا بقضّها وقضيضها، ولو كان له واديان من ذهب لتمنّى ثالثًا، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد يكون ممّن أكرمه الله بالمال ومتّعه بالثروة وساق له معهما ذخيرة الشكر والتواضع فلا يغيّره ذلك ولا يُطغيه ولا يرمي به في أودية الغرور، لأنه حتى في هذه الحالة وثيق الصلة بالله، ومعيار غناه ليس ذات اليد وإنما تعلّق القلب بالسماء والإنعتاق من رقّ الدنيا، والغنى غنى القلب كما أكّد الحكماء من قديم وأثبت السالكون لطريق العيش في سبيل الله في كلّ زمان، وفي حديث الترمذي : " ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس "

والغني بهذا المعنى لا يتمسّح بأعتاب ذي مال ليلتقط الفتات المتساقط من مائدته الزاخرة، ولا بصاحب منصب ومكانة لينال نصيبا من حظوته، لأنه بما في يد الله أوثق ممّا في يده هو، فكيف بما في يد غيره؟     

·       لا افتقار إلا إلى الله : الفقر ظاهرة إنسانية تلازم الحياة البشرية منذ الأزل ، مثلُها مثل الغنى، ليتمّ الابتلاء ويمرّ الناس على دروب المكابدة، والفقير – في عرف البشر – قرين الذلّ والمهانة، يمدّ يده من أجل اللقمة للقاصي والداني، ويقبل في سبيل ذلك بالمعاملة الخشنة واللفظ النابي والدوس على كرامته، أما المؤمن الرباني فله مع الفقر شأن آخر، فهو يستمدّ كرامته من عبوديته لله وليس من ممتلكاته قلّت أو كثرت، وأخلاقه بين الناس لا يحددها إحسانهم إليه ولا مجافاتهم له، لأنّ لها أصالة في شخصيته وعقيدته، قد يبيت وأهله على الطوَى ويربط الحجارة على بطنه من الجوع ولا يرتدي حُللاً فاخرة ولا يملك بيتًا واسعًا ولا سيارة لكنّه لا يحني ظهره إلا لله ولا يميل قلبه بالطمع إلى إليه سبحانه وتعالى، ولا يجد حلاوة الذلّ إلا على أعتاب بابه، أمّا في دنياه فهو غنيّ بدينه وأخلاقه وامتلاء صدره باليقين في عدل الله والوفاء بوعده في تعويضه عن فقره بجنة عرضها السماوات والأرض .

إنه كذلك لأنه فقير إلى الله في غناه، فكيف لا يكون فقيرًا إليه في فقره؟ لكنّه فقر العارفين بالله، لا أثر له على القلب والروح، يقول الله تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد " – سورة فاطر 15

فإذا وجد العبد نفسه في حالة من الحاجة والمسغبة أخذ بالأسباب وضرب في الأرض وبحث عن مصدر الرزق وقلبه مفعم بالرغبة إلى الخالق وحده، " واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكلّ شيء عليمًا " – سورة النساء 32،

-         إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله " – حديث رواه الترمذي

ذكروا أنّ أحد خلفاء بني أمية حجّ البيت فإذا بالناس يحتفون عند الحرم بزين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، فأراد استمالته فقال له: هل لك من حاجة أقضيها لك؟ فردّ عليه سليل بيت النبوّة في عزة المؤمن: لو علمت أنك تقضي الحاجات لاتّخذتُك إلهًا.

·       الفرح بمرضاة الله : رضا الله تعالى غاية غايات المؤمن العارف بالمقامات، تتصاغر أمامها كلّ غاية ويتضاءل كلّ هدف :" وأن إلى ربك المنتهى " – سورة النجم 42،

كان ابتغاء الرضوان يحدو موسى عليه السلام وهو يستبق الزمن ويقدم على ربّه قبل الموعد فلما سأله عن ذلك قال: " وعجلت إليك رب لترضى " – سورة طه 84، وكيف لا ينغمس المؤمن في بحار الفرح وهو يرجو أن يكون من الذين قال الله فيهم : " رضي الله عنهم ورضوا عنه " – سورة البينة 8، وهل تُسعف الألفاظ والتعبيرات البشرية في الإفصاح عن هذا الكلام الرباني المعجز ؟ الفرح يغمر العبد المؤمن وهو يتلمّس في سيره إلى الله مواطن الرضا المتبادل بينه وبين ربّه العزيز الحكيم، يحسّ بغمرة الحبور وهو في محرابه راكع ساجد  يمرّغ وجهه بين يدي الله، يتلذّذ بتلاوة كلامه وبالتسبيح الكثير والبكاء على خطاياه وتفريطه، كما يفرح بفضل الله وهو يفعل الخير ويساعد عباد الله ويواسيهم ويفرّج من كرباتهم وييسّر أمورهم ويقضي حاجاتهم، ويفرح وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويذود عن حياض الدين ويدعو إلى الله ويصلح في الأرض ولا يفسد فيها، ففي هذه المواطن مرضاة الله تعالى، وإذا نالها فماذا فاته؟ وقد صدق الشاعر:

فليتك تحلو والحياة مريرة   وليتك ترضى والأنام غضاب

وتتضاعف غبطته وهو يرى نفسه يتقلب في أعطاف المنَن الربانية، استقام بتوفيق من الله، وأقبل على الطاعات ونأى عن الكبائر والموبقات ودأب على المسارعة إلى التوبة والإنابة كلّما مسّه طائف من الشيطان، بينما كثير غيرُه فاتهم التوفيق الإلهي

فهم تائهون في أودية الغواية والضلال، فكيف لا يفرح بمرضاة الله ؟

·       الحزن على فوات الطاعة : بقدر ما يفرح المؤمن بإقباله على الله بالعبادة وأخذه بحظّ وافر من مرضاته فهو يعتريه الحزن ويغشاه الأسى كلّما أصابته الغفلة وفاتته فرصة سانحة للاقتراب أكثر من الله وفعل الخير وجني الحسنات، فكيف إذا التفت إلى شبابه فألفاه يدلف به إلى الشيخوخة ولم يبذل منه في سبيل الله إلا القليل؟ وكيف إذا نظر في عمره الذي لا يملك سواه فوجده في إدبار من الدنيا وإقبال حثيث على الآخرة وقد أفنى أكثره في شواغل الحياة الفانية ولم يدّخر منه للباقية إلا القليل؟ يتساءل: أين الصحة والقوة والفراغ؟ يندم على كلّ ما فاته من الله، ويندم على كلّ ساعة مضت بعيدا عن الله، يتحقّق في نفسه من قول الله تعالى : " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون " – سورة التوبة 82، ويستحضر الحديث النبوي : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " – رواه البخاري

نعم  إنه عابد لله، صاحب دين وخلق، لكن لا يمني نفسه ولا يأمن مكر الله ولا يغترّ بالتزامه، وكلما سرّته بعض طاعاته تذكّر أرباب القيام والصيام والختمات الكثيرة للقرآن والجهاد والبذل والتجرّد للآخرة والبكاء والتضرّع والإنفاق، فعلاه الحزن، وما يُدريه أن أعماله قد قُبلت؟ أليس يقرأ في الذكر الحكيم: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " – سورة الفرقان 23، ويقرأ : " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " – سورة الزمر 47.

فكيف لا يحزن من كلّ هذا؟ لكنه يعلم أنه حزن ممدوح، هو في حدّ ذاته من علامات صحة الصحبة مع رب العالمين جلّ جلاله، أما الحزن على الحظوظ التي  فاتته من الدنيا فيتركه لأبناء الدنيا.

·       الخوف من السقوط من عين الله: إذا دارت الأيام دورتها وأصاب الكدرُ علاقتك بصاحب منصب مرموق أو مركز اجتماعي كبير أو ثروة طائلة أو حسب ونسب، فتراه يتباعد عنك ويتبدّل عليك وتسقط من عينه فالخطب هيّن يمكن جبرُه، والأيام دُوَل بين الناس، وأنت وصاحبك هذا تسيّركما الأقدار فهو ضعيف مثلك، لكنّ المصاب الجلل أن تسقط من عين الله، فهذه مصيبة تشمل الدنيا والآخرة، فمن أعرض الله عنه وأصبح لا وزن له عند ربّه قد خسر خسارة لا يجبرها أن يكبر في عين البشر مهما سمت مكانتهم بالقوة والمال والجاه :

- " نسوا الله فنسيهم " – سورة التوبة 67.

- " كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " – سورة المطففون 15

ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم – سورة آل عمران 77

هو يرجو أن يكون من الذين يخصهم الله يوم القيامة بالجائزة الأكبر وهي النظر إلى وجهه الكريم : " وجوه يومئذ ناضرة - إلى ربّها ناظرة " – سورة القيامة 22-23، حتى لا يكون مصيره مع الطائفة الآخرة : " ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة " – سورة القيامة 24-25

لمَ كلّ هذا ؟ لأنّ القيامة تهوي بأقوام إلى دركات الهوان لتفريطهم في جنب الله، فتخفضهم ، وترفع آخرين إلى مقامات الصديقين والمقربين لإخلاصهم العبودية لله وأداء مقتضياتها، ومن لازمَه الخوف من السقوط من عين الله تزوّد من التقوى والمراقبة ، وتقلّل من الذنوب، فاجتنب الكبائر والموبقات، وكلّما رتع في الصغائر واللمَم سارع إلى التوبة والاستغفار، ولم يستهن بشيء منها، امتثالا لقول الله تعالى: " إن الذين إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون " – سورة الأعراف 201، وقوله جلّ شأنه : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين  " – سورة ال عمران 135-136.

والذنوب لا تُسقط المؤمن من عين الله إلا إذا استمرأها وداوم عليها وتلبّس بها من غير توبة ولا إقلاع، أمّا التوبة فهي بذاتها ممّا يرفع مقام العبد عند ربه ويؤهّله لمقعد صدق في الجنة لأنها أنصع تعبير عن العبودية لله والثقة به والالتجاء إلى ركنه الركين.

وبعد، فإنّ هذه الصفات إذا اجتمعت أفضت بالمؤمن إلى الحياة مع الله والتلذّذ بمعيته سواء كان في محراب الصلاة ومخبر الأبحاث أو في السوق والوظيفة والثكنة العسكرية وقاعة الدرس.