لون من المحاسبة

د. حيدر الغدير

قرأت لأحد المربين الحكماء نصيحة ثمينة، تدعو المسلم أن يخصص بضع دقائق كل يوم قبل نومه، يستعرض فيها ما مر به في يومه المنصرم، فما وجد من خير حمد الله عليه ونوى أن يستزيد منه، وما وجد من شر استغفر الله منه وعزم على هجره، ثم ينام على أحسن العزائم.

سررت كثيراً بهذه النصيحة الذكية والعملية وحرصت كثيراً على التقيد بها، وأدركت من هذا الحرص مقداراً متفاوتاً من النجاح، أرجو أن يزيد ويصبح جزءاً ثابتاً فيّ حتى ألقى الله - عز وجل -.

جعلت من دأبي حين آوي إلى فراشي في الليل، أن أخلو بنفسي دقائق مباركة، أستعرض فيها ما مر بي في يومي، فأحاسبها حساباً دقيقاً، وقد أقسو عليها، ألومها لأن صوتي ارتفع حيث لا ينبغي له ذلك، وألومها لأنني اغتبت أحداً من الناس فأستغفر الله تعالى له ولي، وألومها لأنني في المجلس الذي سهرت فيه تحدثت بأكثر مما ينبغي، فوقعت في شهوة الكلام، وألومها لأن شوائب ذميمة من حب الظهور والرغبة في التعالم كدرت علي نيتي، وألومها لأني تقاعست عن خدمة صديق كريم وأنا قادر على خدمته، وألومها لأنني اشتريت أشياء لا أحتاجها مسوقاً برغبة الامتلاك والتكديس، وألومها لأنني بخلت حيث يدعوني الكرم، وألومها لأنني أسرفت حيث تمنعني الحكمة.

إلى جانب ذلك كنت أهنئ نفسي على أي خير مر بي في يومي المنصرم، من مروءة تبذل، أو حاجة تقضى، أو نصيحة تسدى، أو نجاح يقع، أو فائدة تجبى، أو صلاة في مسجد، أو زيارة لجار، أو صلة لرحم.

وكنت أختم ذلك كما أوصى المربي الحكيم بحمد الله تعالى على الخير مع العزم على مواصلته والاستمرار فيه ومحاولة الاستزادة منه، والعزم على ترك الشر والاستغفار عنه، وكنت أسأل الله تعالى دائماً أن يرزقني الإخلاص والصواب معاً لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

ولقد وجدت في هذا اللون من المحاسبة فوائد جمة كانت تزداد مع استمراري فيه، وتقل مع نسياني له وإهمالي إياه.

تعلمت أن أشتغل بعيوبي عن عيوب الناس، وتعلمت أنَّ التربية عملية مستمرة تظل حاجتنا إليها ماسة مهما امتد بنا العمر وازداد حظنا من الصلاح ذلك لأننا بشر لابد أن نخطئ. وتعلمت أن أعترف بالخطأ وأن أعتذر، وتعلمت أن أبدل وجهة نظري حيث تدعوني دواعٍ كريمة إلى ذلك وقلت لأحد رفاقي الذي لامني على ذلك : الذين لا يغيرون آراءهم إن وجدت الدواعي الكريمة لذلك صنفان هما الأنبياء والأغبياء، الأنبياء لأنهم لا يخطئون والأغبياء لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون.

واستفدت من هذه المحاسبة راحة في الضمير تتمشّى في كل كياني، حين أشعر أنني أنام وليس لمسلم علي حق وحقوق العباد مبنية على المشاحّة وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحفظت من مأثور الدعاء: اللهم لا تجعل علي تباعة لأحد.

استفدت أنني أنام وأنا سليم الصدر نقي السريرة أدعو لنفسي وللمسلمين أجمعين الأموات منهم والأحياء، فلا أبيّت أذى لأحد، ولا أنطوي على غش لمخلوق، وربما دعوت حتى لمن أساء إلي.

شعرت مع الزمن أن هذه المحاسبة عون كبير للمسلم تأخذ بيده للتخلص من معاصي القلوب من حقد وحسد وكبر وغرور وشح ويأس وخوف وعجز وما إلى ذلك، ومعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح والتخلص منها أعسر، ذلك أن المسلم حين يدمن هذه المحاسبة ترتقي مداركه وتتسع آفاقه وتصفو نيته وتعلو عزيمته وتزكو سريرته، ويصبح أقرب إلى أخلاق الكرام والنبلاء والصالحين.

ووجدت في هذه المحاسبة عوناً حميداَ لي على دنياي أيضاً، إذ إنني بها أنام سعيداً وأقوم نشيطاً وأستقبل مسؤوليات يومي الجديد بأمل حي وإرادة فاعلة.

ووجدت فيها أيضاً عوناً لي على التجدد حين أخفق في قضية، أو أخسر في صفقة، أو أبتلى بأذى من رئيس أو زميل أو جار أو قريب. والمرء الذي يفقد القدرة على التجدد ويبقى أسير أخطائه أو أخطاء الآخرين هو ميت وإن عده الناس من الأحياء.

كما وجدت في هذه المحاسبة عوناً لي على التخلص بالتدريج من الشعور بالحزن والمرارة والإحباط، وفي ذلك خير كثير، لأن في تراكم هذا الشعور واستفحاله آثاراً مدمرة.

إن الحديث عن فوائد هذا اللون البديع من المحاسبة كثير، وما قلته من هذه الفوائد يومئ لما لم أقله، وللقارئ الكريم أن يجيل بصيرته فيه ليجد الكثير.

كانت مدة المحاسبة تستغرق مني سبع دقائق تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، تعقبها أو تسبقها أدعية النوم المأثورة.

في الليالي التي أحاسب نفسي فيها حساباً شاملاً، وأقرأ الأدعية المأثورة كاملة، كنت أشعر بسعادة لا حد لها، وكنت أشعر أنني خرجت من حمام (ساونا) نفسي نقِّاني أحسن النقاء وطهرني أحسن التطهير، وربط على قلبي، وجعلني في معية الله - عز وجل.

وحين كنت أنظر إلى ما مضى من العمر، وأشعر أني قد لا أقوم من نومي، تهون علي الدنيا هواناً كبيراً ويزداد تعلقي بالباقي القادم على حساب الفاني المنصرم.

اعتاد الناس على محاسبة بعضهم: الزوجان يتحاسبان، والأب يحاسب الابن، والرئيس يحاسب المرؤوس، والشريك يحاسب شريكه... وقل مثل هذا ما شئت، وليس هذا الأمر عيباً، بل هو أمر محمود ومطلوب بآدابه وضوابطه، لأنه وسيلة لرقي الحياة تجعلنا نعرف الخطأ لنتجاوزه والصواب لنحتفظ به ونستزيد منه. ليت الناس يحرصون على هذا اللون البديع والراقي والشائق من المحاسبة، عندها سوف يتقدمون في دينهم ودنياهم ويكون حظهم من هذا التقدم مساوياً لحظهم من هذه المحاسبة.

ورحم الله المربي الحكيم الذي تعلمت منه هذه النصيحة الثمينة، ورحم الله الخليفة العظيم عمر بن الخطاب الذي أوصانا فقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، والذي دعا الناس إلى تعريفه بأخطائه وعدّ ذلك هدية منهم إليه فقال: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.