إن لله جنوداً من عسل

د. حيدر الغدير

حقق المسلمون في معركة القادسية نصراً كبيراً على الدولة الفارسية، لكن عدداً من قادة الجيش الفارسي تمكنوا من الفرار، وأخذوا يحشدون الناس لحرب المسلمين، ويثيرون فيهم الحمية، ويؤلبون ويستعدون ويدبرون، باذلين كل ما بوسعهم للإعداد للمعركة القادمة، وهي المعركة التي عرفت باسم "نهاوند" وكان قائد الفرس فيها هو "الفيرزان" وكان قائد المسلمين فيها هو "النعمان بن مقرن المزني".

والتقى الجيشان وبذل كل منهما غاية وسعه، وأكرم الله –عز وجل- المسلمين بنصر مؤزر بعد جهود كبيرة ودماء كثيرة.

وحين انتهت المعركة تنبه القائد المسلم "حذيفة بن اليمان" الذي خلف "النعمان بن مقرن المزني" الذي فاز بالشهادة، إلى أهمية السؤال عن مصير "الفيرزان" فلما تبين له أنه ليس في القتلى وأنه استطاع الفرار عزم على ملاحقته والظفر به، لأنه إذا نجا فسوف يحاول حشد الناس لمقاتلة المسلمين مجدداً، وتلك حصافة منه، ونظر حكيم بعيد، وتفكير استراتيجي سديد. وتولت أمر مطاردة "الفيرزان" كوكبة من فرسان المسلمين يقودهم "القعقاع بن عمرو التميمي".

كان "الفيرزان" ذكياً واسع الحيلة، فأسرع في الفرار، لكنه واجه مشكلة لا قبل له بها، لقد كان يعدو في أرض زراعية ضيقة السكك، وكانت هذه الأرض غنية بالعسل الذي عمد أصحابه إلى حمله على دوابهم حين فروا مع الفارين، وعندها صارت الدواب عبئاً على السكك، تعوق بكثرتها وبطئها خطة "الفيرزان" في الهرب، وهو ما جعل المسلمين يظفرون به ويقتلونه، فقال أحدهم يومها قولة جميلة ذهبت مثلاً: "إن لله جنوداً من عسل".

إن الله –عز وجل- سيد الكون وصاحبه، وكل ما فيه طوع أمره، وقدرته لا حد لها، يسخّر ما يشاء كما يشاء، لقد قال –عز وجل-: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو ﴾ [المدثر: 31] وصدق فيما قال، وحسب المرء أن يتأمل في جند الله من ملائكة وشياطين، وإنس وجن، وليل ونهار، وصحة ومرض، ومطر وجدب، ورياح وأعاصير، وفقر وغنى، وبصل وعسل... وما إلى ذلك مما يطيق متابعته ومما لا يطيق، ليقف مأخوذاً مبهوراً وهو يتدبر الآفاق الواسعة لجزء من آية كريمة من الكتاب العزيز، الذي يظل غضاً طرياً لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، والذي يجد فيه كل جيل جديداً من الأمر لم تجده الأجيال السابقة.

ما أجمل أن يمضي المسلم وهو يضرب في شعاب الحياة، ناجحاً أو مخفقاً، فقيراً أو غنياً، غالباً أو مغلوباً، مريضاً أو صحيحاً، مستصحباً باستمرار عظمة الله وقدرته، مخلصاً له القول والعمل، حريصاً على الاستمساك بدينه والدعوة إليه، ثابتاً على عهده معه حتى يلقاه، طالباً منه العون والسداد، واثقاً أنه سيمده بجند من جنده من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، راجياً منه القبول، مستقصياً ما استطاع هؤلاء الجند عدداً وعدة وتنوعاً وقدرة.

إنه حين يفعل ذلك سيجد في نفسه قوة في الجسد، وطلاقة في الروح، وفرحة في القلب، وبسمة في الوجه، ورسوخاً في اليقين، ومضاء في العزيمة. ولعله يمر ببائع العسل فيبتسم ويتذكر كيف كان العسل جندياً يقاتل مع المسلمين فيقتل. فيشكر للعسل جنديته، ويراها في كل شيء آخر، ولعله يقول لنفسه: إن كل شيء في الكون جندي من جنود الله، والعسل أحلى هذه الجنود مذاقاً.