إنه ينادينا (1)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

يقول تعالى في سورة الانفال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)"

الخطاب للمؤمنين ( الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وأذكر أنَّ ( يا أيها الذين آمنوا ) وردت في القرآن الكريم أكثر من ثلاث وثمانين مرّة يخاطب الله تعالى بها عباده معلّماً ومربّياً وهادياً ومبشّراً ومنذراً ...

تلتها (إذا ) الدالة على المستقبل ، ولا شك أن الحرب بين الإيمان والكفر قائمة على مر العصور وكرّ الدهور : كلماتٍ ومواقفَ وتحدّياتٍ ومعاركَ. كلٌّ يسعى لكسب المعركة وإثبات ذاته وفرض رؤيته .

ولا يلقى المؤمنون الكافرين في المعارك إلا إذا شهدوها وخاضوا غمارها وأعدّوا قبل ذلك العدة المعنوية وفيها خمس مراحل تحويها بوضوح هذه الآية الكريمة في سورة الأنفال:" يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكم،واصبروا ؛ إن الله مع الصابرين ".  والعدة المادية في قوله تعالى "  وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ .."

 والزحف الدنوُّ قليلا قليلا . وأصله الاندفاع، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخَر زاحفا . والزحفُ إصرار وعزمٌ ، فإذا كان الكافر – على باطله- عازماً على فرض سيطرته ، يُعِدُّ العُدة لقتال أحل الحق ، كان اولى بأهل الحق أن يكونوا أشد عزماً وإصراراً ، فأولئك يقاتلون لدنيا فقط، والمؤمنون يقاتلون لها وللآخرة ، وفي كلتيهما الفوز والسيادة

وتولية الأدبار علامة التقهقر والخذلان ، وهذا ليس من سمات المؤمن الذي يرى الدنيا سبيلاً إلى الحياة الأبدية الخالدة، ولا يولّي دبُره إلا ضعيفُ الإيمان الذي يرى الحياة الدنيا حياته ونعيمه ، ولا يولّي دبُره إلا من انشغل بمتاع الدنيا الزائل فعاش لها وأنِس إليها، فذاب من أول اختبار وأسلم ساقيه للريح أمام لذّاته وسلّم لعدوّه صاغراً ورضي بالتبعية له ، ولعله في سبيل هذا ينحاز إليه ضد إخوانه من المسلمين فيبوء بغضب الله وسوء المصير.

والعبارة ب(الدبُر) في هذه الآية متمكنة الفصاحة ; لأنها بشعة على الفارِّ , ذامة له .فمن فرَّ من اثنين فهو فارٌّ من الزحف . ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف , ولا يتوجه عليه الوعيد كما يؤكده الفقهاء، والفرارُ كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع أكثر من الأئمة . فإذا كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين جاز الانهزام , والصبر أحسنُ .فقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف , منهم مائة ألف من الروم , ومائة ألف من المستعربة .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات - وفيه - والتولي يوم الزحف ) وقد ذكر القرآن الكريم فسحة الإدبار في المناورة والمداورة أو الانحياز إلى فئة مسلمة يتقوّى بها وتشد أزره ، أما أن يُطلق ساقيه للريح فمسبَّة وعارٌ في الدنيا، ولقاءٌ عسير يوم القيامة فيه غضب الديّان الذي يقذف صاحبه في النار، والعياذ بالله: " وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

إن الله سبحانه وتعالى يوضح سبب وجوب ثبات المسلمين أمام العدوّ بأنهم ستار لقدرة الله تعلى وإرادته وأن النصر من عنده ، فالمسلم حين يقتل العدوَّ فالقاتلُ هو الله ، وحين يرمي فيصيب إن الصائب هو الله ، واللهُ غالب على أمره " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ... "

فالمسلم يقاتل ويسأل الله الثبات ، ويرمي ويسأله السداد ، ويرمي ببنفسه في أتون الموت ويسأل الله الشهادة والقبول . ولا يستطيع هذا الإقبالَ الرائعَ إلا المؤمنُ الذي شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فربح رضاه والجنّة  وهذا هو البلاء الحسن الذي ينجح فيه من أخلص لله تعالى " وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا...."

ويعجبني قولُ القاسم يعلق على الثبات في المعركة والصبر عليها (لا تجوز شهادة من فرَّ من الزحف , ولا يجوز لهم الفرار وإن فرَّ إمامُهُم) ..

إننا في ثورتنا ضد الإجرام الكافر والظلم القاهر في سورية الحبيبة أهل حق ودعاةُ حرّيّة ، فإذا أردنا النصر سعينا له بكل ما استطعنا من مال ورجال وإعلام سديد موَجّه وعتاد و... ولينصُرَنّ اللهُ من ينصرُه...

إنه – سبحانه- ينادينا ،،،،، فهل سمعنا النداء؟