إذا أنت لم تَنْفع فلا تضرّ!

أ.د/ عبد الرحمن البر

إذا أنت لم تَنْفع فلا تضرّ!

أ.د/ عبد الرحمن البر

عميد كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر

كان الأوسُ والخزرجُ قبل الهجرة النبوية قد اتفقوا على إيقاف الحرب بينهم، واجتمعوا على تسمية عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلُول (سَلُول هي أمُّه، لا جدَّه) ملكا توافقيا عليهم، فلما بايع الأنصار من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم وأدركوا فضل الله عليهم في اجتماع أمرهم وكلمتهم به وكان ابن أُبَيٍّ ينتظر التتويج؛ رأى أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكا كان ينتظره ويتوقعه، ونسي أنه كان رائد مشروع عملي لسفك الدماء ووحدة الكلمة، وغلبته طبيعتُه النفسية وأنانيتُه الذاتية، ومن ثَمَّ رفض ما اجتمعت عليه كلمةُ الأمة من الأوس والخزرج وأَبَى أن يُقِرَّ برسالة النبي صلى الله عليه وسلم في البداية، فلما رأى انتصار المسلمين في بدر وحالة النجاح العظيمة التي تحققت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في المدينة لم يجد بُدًّا من الإقرار الظاهري بما اجتمعت عليه كلمة قومه، لكن بقي ضميره مطويا على الرفض وقلبه منطويا على الحقد، وصار جُلُّ همِّه التربص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وتَصَيُّد ما يمكن أن يُسوِّقه على أنه أخطاء، وصار أحرصَ على التواصل مع أعداء الإسلام منه على التواصل مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، بل صار يرفض أن يمد يده لتصافح اليد التي يمدها النبي والمسلمون، ولم يَرَ حرجا في التآمر مع اليهود على الأمة التي كادت أن توليه أمرها يوما ما!

ولئن كان من النادر أن تتكرر حالة عبد الله بن أُبَيّ؛ إلا أن هذه الحالة النفسية من الانقلاب على الأفكار والمبادئ والسعي للإضرار بالأمة التي كان يدعو لرفعتها ويجاهد في سبيل وحدتها –ظاهرا على الأقل- هذه الحالة النفسية وما يترتب عليها من سعي في الإضرار تتكرر في أحوال كثيرة من أناس ظاهرهم الإخلاص لأوطانهم، لكن إذا أعرض الشعب عن اختيارهم يرون أن حضورهم في المشهد العام بشكل مؤثر لا يكون إلا عبر الإضرار بالوطن والإساءة للآخرين من شركاء الوطن، وشعارهم: إذا لم تكن إماماً فيِ الخير فلا يفوتك أن تكون إماما في الشرّ، وإذا لم ترفع في الخير شعاراً فارفع في الشر شناراً.

إذا أنت لم تَنْفع فضُرَّ فإنما            يُرَجَّى الفَتى كيما يُضرَّ وَيَنْفَعا

ومن الطبيعي أن يتم تغليف هذه الأفكار الضارة بعبارات منمقة ظاهرها الرحمة وحب الوطن والسعي في مصالحه، وباطنها الكيد لشركاء الوطن، كائنة ما كانت العواقب التي يمكن أن تحيق بالوطن، ولذلك تجد هذه الدعوات للإفساد آذانا صاغية من كثيرين من المتحمسين الذين قد لا يدركون ما وراء هذه الدعوات وما قد يترتب عليها من مفاسد ومهالك إلا متأخرا، وفي مثل هذه الأجواء يجد البلطجية والمجرمون فرصة سانحة للاندساس بين الجماهير والإساءة إلى الوطن، والسعي في تخريب منشآته، وإثارة الفتنة بين أبنائه، ويرحم الله من قال في أمثال هؤلاء:   

قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيه لهم         طارُوا إليه زَرافات وَوُحْدانا

لا يَسألون أخاهم حين يَنْدُبهم          في النَائبات على ما قال بُرْهانا

على أن هؤلاء الذين أعرض الشعب عن التجاوب مع آرائهم ورفض السير خلف دعواتهم يبالغون في الخصومة مع شركاء الوطن لحد الفجور أحيانا بحيث لا يمنعهم وازع من دين أو ضمير عن الافتراء التماس العيوب للبرآء، وهذا من أشد الأمور على نفوس المخلصين الذين لا تسمح لهم أخلاقهم بمعاملة هؤلاء بالمثل، ولله در القائل:

بلاءٌ ليس يُشبههُ بلاء         عداوةُ غير ذي حسبٍ ودينِ

يُبيحُكَ منهُ عِرْضاً لم يصنْهُ  ويرتعُ منك في عِرض مَصون

ومنتظر الخير أو الإنصاف من هؤلاء كمنتظر بيضة الديك (بالمناسبة أوردت بعض وكالات الأنباء خبراء عن أحد الديوك الصينية الذي يبيض، فلعل هذا يعطينا أملا في عودة بعض هؤلاء إلى الإنصاف).

وعلى الجانب الآخر فإن المخلصين لهذا الوطن والمستشعرين لمسئوليتهم الوطنية والأخلاقية والتاريخية يحرصون على عدم الدخول في صدامات، ولا يضيعون الأوقات في مهاترات، بل يحصرون جهدهم في العمل الجاد للنهوض بهذا الوطن:

كريم له عينان عينٌ عن الخَنَا         تنام وأخرى في المكارم تسهرُ

وهم لا يفعلون ذلك ضعفا عن مواجهة الظلم والافتراء، ولكن حرصا على مصلحة البلاد والعباد، وشعارهم :

لكنَّ قَوْمي وإن كانوا ذَوي عدَدٍ                 ليسُوا من الشر في شيء وإن هانا

يَجْزُون من ظُلْم أهل الظُّلم مَغْفِرَةً              ومِن إسَاءَةِ أهْل السُّوءِ إحْساناً

كأنّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لخشيته     سواهُم من جميع الناس إنسانا

ورسالتهم إلى الذين يفترون عليهم ويتلمسون لهم العيوب ويتصيدون لهم ما يزعمونه أخطاء:

قل ما بَدَا لك من زور ومن كذب     حلمي أصم وما أذني بصماءَ

ويوجهون إخوانهم وأحباءهم إلى الدفع بالتي هي أحسن، وعدم الالتفات إلى الإساءات والافتراءات التي يحترفها من يريدون إشغال الأمة بما لا يفيد في دين ولا دنيا:

أَعْرِضْ عن العوراءِ إن أُسْمِعْتَها       واسكُتْ كأنَّك غافلٌ لم تَسْمَعِ

دعوة وأمل:

في ظل هذه الأجواء التي تعيشها مصرنا العزيزة ومحاولات الاستقطاب الإعلامي الحاد، ومحاولات الضغوط الغربية والأمريكية عبر المعونات والمساعدات الاقتصادية التي يريدون من خلالها ابتزاز الأمة وإملاء الشروط عليها، وفي ظل حاجة الأمة إلى الخروج من الأزمات المفتعلة.