مِن أيّ الصحارى أنت

د. عبد المجيد البيانوني

مِن أيّ الصحارى أنت؟!

د. عبد المجيد البيانوني

بربّك خبّرني .. من أيّ الصحارى أنت .؟! ومن أيّ القطبين جئت .؟!

أتودّد إليك في الليل والنهار .. أرقب رغباتك في الصبح والمساء .. وقبل نومي وبعده .. وفي صلاتي .. وعند تلاوة أورادي .. وأدعو لك من قلبي ، وأقدّمك في الدعاء لنفسي ..

جنّدتُ مشاعري كلّها لأجلك .. ووقفتُها على رغباتك ومطالبك .. التي اكتشفت أخيراً أنّها لا آخر لها .. لأنّها ليس لها أوّل .. ولا تقف عند حدّ ، لأنّها لا تعرف ما تريد .. ولا تسير في اتّجاه ، لأنّها فقيرة محرومة .. وأنّ مشاعري كلّها لا قيمة لها عندك ولا وزن .. مبدع حقّاً .! فكيف استطعت أن تكون كذلك .؟  

لسان حالي ومقالي إليك في كلّ موقف يتودّد .. ونظراتي المتسوّلة في كلّ مناسبة تتبدّد .. وكلماتي المتوسّلة تذهب أدراج الرياح العاصفة .. وكأنّك لا تعيش مع إنسان يمنحك شيئاً من الودّ الصادق ، والمشاعر الفيّاضة .!

ظمأى إليك بكلّ كياني .. إلى بسمة عاطرة .. إلى كلمة حلوة .. ولو عابرة ، كسراب الهاجرة .. أو كالهباء المنثور .. إلى كلمة شكر وثناء .. بعد البذل والعطاء ..

فلا أسمع منك إلاّ عواصف من النقد .. وقواصف من الرعد .. من رمال صحرائك القاحلة .. تلفح وجهي ، وتحطّم كياني ..من رماد بركانك الهادئ الثائر .. تخدش بوابل زخّاتها العنيفة السخيّة زجاج مشاعري .. وتجرح كرامتي .. حتّى أصبح وجهي كئيباًمتآكلاً ، كوجه بدويّة ثمانينيّة ، من بقايا صحراء الجاهليّة ..

كلّ ما يأتيني من لفح صحرائك القاسية العاتية يردّني إلى نفسي .. أنّني مهينة حقيرة ، تافهة ذليلة .. مهما قدّمت أو بذلت .. وأنّ كلّ من يتّصل بي فهُم على شاكلتي ، لا مرحباً بهم ولا كرامة .!

وهل أنا في نظرك ومواقفك .. إلاّ هباءة منثورة ، أو آلة قديمة في ركن صحراء قلبك ، المحروم من سموّ النفس ، ودفء المشاعر .؟!

أتراني أخطأت الوصف والطريق إليك يوم جئتك على طبق من الحبّ ، وقُدّمتُ إليك هديّة من الذهب .؟! أفكنتَ تريد خادمة أمينة ، ليس لها من حقّ عليك إلاّ أن تأكل وتشرب ، وتعمل وتنام ، وليس لها أن تتكلّم أو تكرم ، وقصارى حقّها أنّها لا تضرب ..فكنت قدرك بحظّي المدبر .. وحتّى الخادمة المسكينة فإنّ حقّها كما تعلم أكبر من ذلك ..!

وقال لي الناصحون : " اصبري وأحتسبي ، وتجاهلي وأحسني .. فالأيّام كفيلة أن تعلّم من لا يعلم ، وتليّن الصخر الأصمّ ، وتصحّح الفهم والسلوك .. وربّما جاءك الولد ، فكان سبيلاً لإيقاظ الحبّ الكامن والودّ الأصيل .. " .

وجاء الولد بعد طول انتظار ، ففرح به جميع من حولي سواك ..! لم أر منك لهفة الوالد ، ولا مشاعر الأبوّة ، ولا عواطف الحبّ والشوق بعد مرارة الفقد ..

وتدفّق نهر الحنان من صدري نحو طفلنا عذباً نديّاً ، ثرّاً سخيّاً ، وكأنّه يمنحك في طفلك ما فقدت في طفولتك .. ويريد أن يحرّك مشاعرك .. ولكن دون أيّ جدوى ..

ثمّ جاء المولود الثاني ، ثمّ الثالث ، ثمّ الرابع .. هبات من الله وعطايا ، لا يقوم لها شكر ولا ثناء .. أربعة أطفال كالأقمار فيقبّة السماء .. ولكنّهم لم يحرّكوا فيك عاطفة ، ولم يعنوا لك شيئاً .. إلاّ مزيداً من الأعباء ، والهمّ والعناء .. لم يسمعوا منك مرّةواحدة كلمة أبوّة عذبة ، ولم يحظوا منك بمجالسة أو مداعبة ، أو لطف في القول والتوجيه .. في الوقت الذي تنفق فيه الكلمات العذبةعلى أطفال الآخرين بغير حساب ..

وهذه رسالتي إليك الثانية بعد ستّة أشهر من الأولى .. وقد وعدت على الأولى خيراً .. ولم أر شيئاً من التغيير يذكر .. ومع ذلك فلن أملّ منك ، ولن أيأس ..

حائرة أنا حقّاً .. كيف أتعامل معك .؟! وماذا تريد منّي .؟!

أتذكرُ ما قلتُ لك منذ أوّل يوم عرفتُك ، أم تراك نسيتَ .. ولكنّني ما نسيتُ .. لقد قلت لك يومها : لا أريد منك سوى أمر واحد .. أن تحبّني في الله .. لأنّني أحببتك في الله ، وآثرتك على أهل الدنيا والمال والجاه .. وأنا امرأة مؤمنة ، تخاف الله في نفسها، وتتّقيه قدر استطاعتها .. وقلتَ لي يومها : هذا أقلّ الواجب .. فهل تراك وفيتَ بما وعدت .؟! وأين حبّك في الله لمن أحبّك بصدق .. وأخلص في حبّك .؟!

وختاماً : رفقاً بي ، إن كنت تعرف للرفق معنى .. ورحمة بي ، إن كنت تنشد لنفسك الرحمة .. فلئن كنتَ من صحراء الأرض .. فأنا بفضل الله من ريحان الجنان .. لأنّني أحيا بمشاعر إنسان ، وأحمل لك في قلبي الحبّ والحنان ..

ولئن أصررت أن تكون صحرائي القاحلة ، فلن أكون إلاّ جنّتك الوارفة ، وواحتك الآلفة .. فليكن منك ما تريد ، فلن يكون منّي غير ما أريد ..