ما وراء الثرى

عادل بن حبيب القرين

السعودية/الأحساء

 رحل شيخ، ولد طفل، جاء صيف، انطوى ربيع، كبر الفتى، هرم الشاب....

وبين هذه وتلك ثوانٍ تلحق بالدقائق، ودقائق تلحق بالساعات،

وساعات تلحق بالأيام، وأيام تلحق بالشهور،  وشهور تلحق بالسنين، 

والسنين عمرك أيها الإنسان!!!.

أجل، جلست أتفكر... وأتفكر!!!

فذهبت إلى دار التراب (المقبرة)، علني أجد ضالتي!!!

فالتفتُّ يميناً وشمالاًً فلم أرَ أحداً هناك !!!

كانت الشمس محرقة، والقبور متهالكة، والمكان هادئ، سكون حولي

لا أحد يتكلم أو يهمس فالكل مشغولٌ بأمره!!!

مشيت خطوات معدودة... حتى وصلت إلى قبر والدي، فوضعت يديَّ على ترابه، ودعوت له،

 وقرأت شيئاً من القرآن، وتناثرت دموعي على الأرض، وفاحت رائحة الطين،

 مشعلة فيَّ حنين الذكرى والآمال... فأخذت قبضة من الطين فشممتها حد التيهان... 

 آهٍ لأيام رحلت ولم يبقَ منها إلا فتات الذكريات...

استندت على القبر، ووضعت رأسي عليه، ورحلت إلى عالم آخر... ليس كعالمنا هذا!!!

عالم محزن مفرح، مخيف مؤنس، منير مظلم، أصوات مخيفة، صراخ هُنا، وعويل هُناك، مطارق كبيرة،

شهيق مخيف، وزفير محرق، ماء يتجمد، وعين تغلي،  جبل يذوب، وآخر ينصهر، تراب يتطاير،

 مطر يهطل، أجساد محترقة، وأخرى معلقة، طرق ملتوية،  وقصور عالية، و أخرى صغيرة....

أخذت أسير.. لا أعرف أين أذهب!!!

فسمعت طفلاً يناغي، فتتبعت الصوت... عساني آنس به، وما أن اقتربت منه..

حتى وجدته مقمطاً بقماط كاللُّجين، دققت النظر فيه فلم أعرفه!!!

رأيت بجانبه نعشاً متهالكاً، مسجاً عليه جسد...

فنظرت إلى الجسد وأنا خائف، تحيط بنا أشجاراً خضراء، وأخرى يابسة...

ورفع النعش وتبعته ولا أدري إلى أين يسير!!!

أصواتٌ هنا وهناك، ولا أرى أحداً!!!

أقدام تفتت أوراق الشجر المتساقط على الأرض...

سمعت أحدهم يقول وهو في بكاء: " مسكين أجالس المساكين ".

آخر يقول: "الله الله في أهلكم".

وآخر رافعٌ صوته قائلاً: "  حقاً عندما ينقطع النور، يستوي الأعمى والبصير " .

وجماعة تتمتم في قولها: 

  " مسكين ابن آدم؛ مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة،

 وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة ".

بقيت أفكر فيما سمعت، فظللت الطريق!!!

فناديت بأعلى صوتي: أنقذوني، ساعدوني....

ولم يرد علي َّ أحد!!!

وما هي إلا سويعات، حتى شممت رائحة كافور منبعثة من جسد ذاك المسجى على النعش المتهالك...

  تتبعت الرائحة حتى وصلت إليه، ورأيته قد وضع بجانب باب كبير...كبير

موصداً بالسلاسل والأغلال... وقلت: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله

فانفتح الباب،  وتفاجأت بدهليز صغير مظلم، تنبعث منه روائح لا أعرفها، ولم أشتمّها من قبل !!!

أخذت أمشي  وأمشي،  فعثرت قدماي بالطريق، وسقطت على وجهي،

فحمدت الله.

وما أن رفعت رأسي، حتى شدني نور وركضت إليه!!!

فتابعت الطريق حتى وصلت.

  فوجدت رجلاً ذا هيبة، ترابي المنظر، ذا طلة بهية...  جالساً على طوب أحمر، 

 وروائح المسك والطيب تفوح منه.

يدعو ربه بدعاء عجزت عن تفسيره، وعيناه تذرف الدموع،

رافعاً رأسه وكفيه إلى السماء...

وبعد أن فرغ من دعائه، سلمت عليه فرد عليَّ بكلام بليغ فصيح

ثم أشار إليَّ بيده أن أمسكها، وما أن أمسكت بيده وفتحتها، إلا ورأيت عليها حروفاً منقوشة:

" العامي يتدبر القرآن بالعبارة، والعلماء بالإشارة، والأولياء  بالوصائف، والأنبياء بالحقائق".

فمد إليَّ يده الأخرى وبها وريقة معقودة بخيط رقيق...

فأخذتها وفتحت الخيط وفللتها وإذا مخطوط فيها:

 ( كن متواضعاً، كن عطوفاً، كن رحيماً، كن كريماً ، كن رؤوفاً، كن تقياً، كن أميناً،

كن صادقاً، ... وكن، ... وكن...، واعرف الحق تعرف أهله)).

وما زلت إلى الآن حائراً في أمري !!!

هل أنا معني بهذا القول؟!

أم نحن؟!

أم هم ؟!.