وداعاً جماعتي... وداعاً أحبتي

محمد فاروق البطل

وداعاً جماعتي ... وداع محب معتز شاكر ودود ، وداع مسؤولية ، وليس وداع عمل وانتماء ، كيف...؟؟!! وقد تعلق قلبي وفكري وعواطفي ومشاعري بك ، منذ خمس وستين سنة ، بل ارتبط بك تاريخي وذكرياتي ، شبابي وشيخوختي ، آمالي وآلامي ، لم أفارقك في لحظة، ولم تهجريني للحظة ، انتميت إليك فتى يافعاً، وأنا ابن ثلاثة عشر ربيعاً ، وأغادر مواقع المسؤولية فيك، وقد قاربت الثمانين، حامداً لله تعالى، شاكراً لأنعمه ، إذ متعني بالصحة والعافية ، لأحمل المسؤولية بكل همة، وأؤدي الواجب بكل نشاط ووعي واستيعاب ، لم تضعف مني ذاكرة ، ولم أعجز عن أداء واجب، ولم أعتذر عن طاعة ، ولولا أن الواجب يقتضيني أن أفسح المجال للشباب لمضيت في عملي وتابعت مسؤوليتي ، متمثلاً قول ربي :[وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] {الحجر:99}  .

لقد كانت هذه الجماعة هي محضني التربوي الثالث، بعد والديَّ وشيوخي ، أعطتني الكثير ... الكثير ، حفظتني في طفولتي ومراهقتي ، بَنَتْ فكري وثقافتي ، كوَّنت معالم شخصيتي ، سلكت بي سُبُل الخير ، وأقامتني على الجادة ، وأعانَتْني على الالتزام ، صحبتُ من خلالها صفوة الشباب، وأعزَّ الإخوة ، وأوفى الأصدقاء ، والتزمتُ مع كرام القادة وخيار الدعاة...

وداعاً جماعتي... وأنا أحمل لكِ أطيب الذكريات ، وأرق العواطف ، وأعز المشاعر ، لم ألق منك إلا خيراً ، ولم أصحب من خلالك إلا أخياراً ، ولم ندعُ إلا إلى خير ، ولم نلتق إلا على خير .والحمد لله رب العالمين.

أشهد أنكِ سرتِ بي في أفضل طريق، وأهدى منهج، وأقوم سبيل ، سبيل الله السوي ، ومنهج الله القويم :[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] {يوسف:108} .

أشهد أنكِ ربطت قلبي بأكرم غاية (الله غايتنا) وجمعتِ نفسي على أعظم قدوة (الرسول زعيمنا) ووجهتِ حياتي مع أشمل منهج (والقرآن دستورنا) وحددتِ مسار حياتي بأسمى طريق (الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).

أعود اليوم جندياً كما بدأت ، خادماً وفياً لمبادئ الجماعة وقيمها ، مجتهداً في تحقيق أهدافها ورسالتها ، ملتزماً بتنفيذ ما يَطلب مني إخواني المسؤولين بالمعروف ، وبما يرضي ربي سبحانه ، لا أتردد في تنفيذ كل ما يحقق الصالح العام ، وما أقول هذا إلا عن معرفة كاملة بمبادئ هذه الجماعة التي لا تحيد قيد أنملة عن شرع الله القويم ، ومبادئ الإسلام الحنيف ، وإن لأحمد الله سبحانه الذي جمع لي بين مدرستين : أولاها مدرسة العلم الشرعي ، وقد تلقيته من كبار العلماء في الثانوية الشرعية بحلب وكلية الشريعة بجامعة دمشق ، ثم كانت مدرسة الدعوة ، وقد متعني الله بالصحبة القريبة من العلماء وكبار القادة والدعاة أمثال : الدكتور الشيخ مصطفى السباعي ، والعلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، والقاضي الممتاز الشيخ عبد الوهاب ألتنجي ، والشيخ الرباني محمد حموي ، والداعية الرائد الشيخ سعيد حوى ، والمحامي الفقيه الأستاذ عبد القادر السبسبي والطبيب الفقيه الدكتور حسن هويدي رحمهم الله تعالى . والأستاذ عصام العطار ، والشيخ الجليل محمد علي مشعل ، والمحدث الشيخ محمود ميرة، والموجه الرائد الدكتور الشيخ محمد أديب الصالح ، والإداري الكبير الأستاذ عادل كنعان ، أمدَّ الله في أعمارهم بالصحة والعافية.

واقول لإخواني عهداً لربي أن أبقى أحمل الراية ما حييت ، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ، راية الحق والقوة والحرية ، راية الخير والدعوة والإصلاح ، راية الجهاد حتى يعز دين الله ، وتسود شريعته سبحانه.

سأودع المنصب والمسؤولية وأتابع جهدي وعملي جندياً، في المجال الذي يُتاح لي أو الذي سأُكلَّف به ، أو الذي يقتضيني الواجب الشرعي والدعوي أن أؤديه.

وأقول لإخواني أيضاً : سأكون أطوع ما أكون لإخوتي المسؤولين مهما صغروا طالما أنهم يأمرونني بمعروف ، أو يكلفونني بمعروف ، ملتزماً بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم : (على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يُؤمَر بمعصية) (اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبييبة ما أقام كتاب الله فيكم) على هذا تربيتُ ، وبهذا ربيتُ أحبابي.

وأحمد الله سبحانه أن يسر لي ثقافة شرعية تعينني على التمييز في الأحكام، فألتزم بما يرضي ربي سبحانه ، وكان على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأعتذر عما يخالفها، وأشهد أنه لم تمر بي حالة واحدة من النوع الأخير خلال خمسة وستين سنة ، بل لا يجرؤء أحد في هذه الجماعة أن يشذ عن الطريق، أو ينحرف عن السبيل ، وإلا كان مصيره الفصل والطرد، مهما كان كبيراً، غير مأسوف عليه ، ونظام العقوبات في نظام الجماعة يطاله بأشد العقوبات.

وأقول صادقاً : لم يمر بي أحد في الجماعة خلال خمس وستين سنة كان أكبر من الجماعة، وأكبر من نظامها ، ولقد مارستُ القضاء في الجماعة لفترة طويلة، ولا أزال ، ولولا الأدب والاحترام لأساتذتي وشيوخي لذكرتُ أسماء مَن حاكمتُهم وفصلتُ في الدعاوى المقامة عليهم ، وما كان هذا ليعيبهم أو يقدح في سيرتهم ، وما عهدتهم إلا ملتزمين بالنظام، محترمين لمؤسسات الجماعة منفِذين لقرارتها، وبخاصة مؤسسة القضاء، فهي مؤسسة مستقلة لا سلطان لأحد عليها البتة ، إلا سلطان الرقابة الشرعية، ثم سلطان النظام العام للجماعة.

بهذا أشهد... والله على ما أقول شهيد.