ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ

رضوان سلمان حمدان

النداء التاسع والخمسون

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ]النور58[

إن الإسلام منهاج حياة كامل؛ فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها، وفي كل علاقاتها وارتباطاتها، وفي كل حركاتها وسكناتها. ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة؛ وينسق بينها جميعاً، ويتجه بها إلى الله في النهاية.

إن بعض الناس قد تهاونوا بهذا الأدب مع أولادهم بدافع الدلال المفرط أو عدم المبالاة؛ فنجد أن بعض الناس يكون أولاده مدركين، ثم لا يأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة، بل إن البعض قد زاد هذا الأمر بجمعه معهم في مضجع واحد، وظنوا أنه من مصلحتهم، ولكنهم مخطئون؛ فهم يدركون ما يرون، وربما وقعت أنظارهم على عورات أهليهم أو غيرها، وربما بدأ الشعور الجنسي عندهم مبكراً، ثم يشغل بالهم ما رأوه.

وقد ينتبه لهم الأبوان بعد هذه الحال، فيعزلونهم، ولكنهم لا يفرقون بين الذكور والإناث في المضاجع؛ فقد يقع فساد كبير، وفي ذلك الأدب حفظ لهم ولسلامة فطرهم.

هداية وتدبر[1]

1.    الاستذان أدب رفيع يدل على حياء صاحبه وشهامته وتربيته وعفته ونزاهة نفسه وتكريمها عن رؤية ما لا يجب أن يراه عليه الناس، أو سماع حديث لا يحل له أن يسترقه دون معرفة المتحدثين، أو الدخول على قوم وإيقاعهم بالمفاجأة والإحراج، ومع تقدم الحضارة وصناعة البيوت المقفلة والأبواب المحكمة فما زال هناك من يدخل دون سلام، أو يغشى غرفة غيره أو يقتحم مجلساً دون إعلام واستئذان.

2.    شرع الله لنا آداب الاستئذان؛ لأن الإنسان ظاهراً يراه الناس جميعاً، ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين، إذن: فَرُقْعة الأهل والملاصقين لك أوسع، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام، فإنْ كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسعَ من حريته مع الأسرة. فلا بُدَّ إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة.

3.    يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، يجب أن تأمروا عبيدكم وإماءكم وصبيانكم الذين لم يصلوا إلى حد البلوغ ألا يدخلوا عليكم إلا بعد الاستئذان فى ثلاثة أوقات، وهى: قبل صلاة الفجر، وحين تتخففون من ثيابكم وقت القيلولة، ومن بعد صلاة العشاء عند الاستعداد للنوم. فهذه الأوقات يتغير فيها نظام اللبس باستبدال ثياب النوم بثياب اليقظة، ويبدو من عورات الجسم ما لا ينبغى رؤيته، ولا حرج عليكم ولا عليهم فى الدخول بغير استئذان فى غير هذه الأوقات، لأن العادة جرت بأن يتردد فيها بعضكم على بعض لقضاء المصالح.

4.    تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء، ثم الأتباع مثل

الخدم وغيرهم، والحق  تبارك وتعالى  يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون.

5.    وهذا الأدب تكليف من الله تعالى لكل مؤمن داخل الأسرة، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصغار، فأمر الله الكبارَ أن يُعلِّموا الصغار، كما ورد في الحديث الشريف: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}.

6.    وإنما خص الله تعالى في هذه الأوقات، لأنها في الغالب يخلو فيها المرء بأهله، ولذلك قال: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُم}، فنبه به على أنها أوقات تكشف العورة فيها وفي مثلها، لا يجوز لمن ليس ببالغ أن يدخل ويهجم.

7.    يشمل الأمر بالاستئذان النساء كما يشمل الرجال، لأنه شرع لئلا يطلع أحد على أحد على ما يطوي الناس في بيوتهم مما لا يحبون أن يطلع عليه أحد، إلى جانب عدم النظر الى ما لا يحل له أن ينظر إليه.

عن أم أياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضى الله عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: لا، فقالت واحدة: السلام عليكم أندخل؟ قالت: ادخلوا، ثم قالت: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها.

8.    لطيفة: انظر إلى هذا التحفّظ الذي يوفره لك ربك  عز وجل  حتى لا تُقيِّد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة، وكأن هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذِن. أما في بقية الأوقات فالكل يستأذن عليك حتى الزوجة.

.................................................

المعاني المفردة[2]

مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ: العبيد والإِماء. هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير يستطيع أن يتركك في أي وقت، أمَّا العبد فليس كذلك؛ لأنه مملوك الرقبة لا حريةَ له، فالمملوكية راجحة في هؤلاء، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يُفْلت منه. وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ: الصبيان ذكوراً وإناثاً. هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبْلَغ التكليف، ويقضون المصالح. طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ: أي يمضون ويجيئون.

الإعراب[3]

"الذين" عطف بيان من المنادى، وجملة "ليستأذنكم" جواب النداء مستأنفة، وقوله "والذين": اسم معطوف على الموصول المتقدم، الجار "منكم" متعلق بحال من الواو، "ثلاث" نائب مفعول مطلق، والجار "من قبل" متعلق ب "يستأذن"، و"حين" ظرف زمان متعلق ب "يستأذن"، والجار "من بعد" متعلق ب "يستأذن"، وقوله "ثلاث": خبر لمبتدأ محذوف أي: هي ثلاث، والجملة مستأنفة، الجار "لكم" متعلق بنعت ل "عورات"، جملة "ليس عليكم جناح" نعت ل "ثلاث"، "بعدهن" ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر، "طوَّافون" خبر لمبتدأ محذوف أي: هم، والجملة مستأنفة، الجار "عليكم" متعلق ب "طوافون"، و"بعضكم" مبتدأ، والجار "على بعض" متعلق بالخبر، وجملة "بعضكم على بعض" بدل من جملة "هم طوافون"، الكاف في "كذلك" نائب مفعول مطلق، والتقدير: يبين الله تبييناً مثل ذلك التبيين، وجملة "يبين" مستأنفة، وكذا جملة "والله عليم حكيم".

سبب النزول[4]

روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج وكان نائماً، فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شىء؛ فقال عمر وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإِذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت؛ فخر ساجداً لله. وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله تعالى عنه للوحي.

المناسبة في السياق[5]

قال البقاعى: لما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين، وتوهين أمر المعتدين، شرع في إكمالها، بإثبات بقية أحوالها، تأكيداً لما حكم به من التمكين، وما ختمه من ذلك من التوهين، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين، وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة، ولزوم السنة والجماعة، فقال واصلاً بما ختم به الأحكام الأولى، من الأمر بإنكاح الأيامى، والكف عن إكراه البغايا، إثر الذين لم يظهروا على عورات النساء: {يا أيها الذين آمنوا}الآية.

القراءات

الكلمة

القارئ - الراوي

الشرح

ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ

حمزة الكوفي

متفق عليه

الكسائي الكوفي

متفق عليه

خلف العاشر

متفق عليه

عاصم الكوفي

شعبة

( ثَلاَثَ عَوْراتٍ ) بنصب الثاء

جعلوه بدلاً من قوله ثلاث مرات و ثلاث مرات نصب على الظرف.

ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ

نافع المدني

متفق عليه

ابن كثير المكي

متفق عليه

أبو عمرو بن العلاء

متفق عليه

ابن عامر الدمشقي

متفق عليه

أبو جعفر

متفق عليه

يعقوب

متفق عليه

عاصم الكوفي

حفص

( ثَلاَثُ عَوْراتٍ ) برفع التاء

                

[1] . جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري. المنتخب في تفسير القرآن الكريم / لجنة القرآن و السنة. خواطر محمد متولي الشعراوي. أحكام القرآن/ الكيا الهراسي.

[2] . تفسير النهر الماد / الأندلسي. خواطر محمد متولي الشعراوي.

[3] . مشكل إعراب القرآن للمسكي.

[4] . تفسير النهر الماد / الأندلسي. روح المعاني/ الالوسي.

[5] . نظم الدرر ح 5 ص 281  283.