عاشوراء دروس وعبر 2

أ.د. عبد الرحمن البر

عاشوراء دروس وعبر (2-3)

محاضرة ألقاها : أ.د. عبد الرحمن البر

في ذكري عاشوراء 2010

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 (2) الصراع بين الحق والباطل ممتد متجدد ويحتاج إلى قوة نفسية وروحية عالية:

هذا ينقلنا إلى المسألة الثانية في هذا اليوم، أو في هذه الليلة الغراء المنيرة، وهي قضية قولهم: هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ ^: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم". قضية الباطل في صراعه مع الخير والحق.

قضية الباطل في صراعه مع الخير والحق، قضية تحتاج إلى تذكر مستمر..

أحيانا الإنسان يسأل نفسه، لماذا كان الاحتفال مثلا بيوم عاشوراء بالصيام وليس بعمل شيء آخر؟!!

الصيام، هو صورة من صور الجهاد الذي لا ينقطع، وهي جهاد النفس.. جهاد الشهوات.. جهاد الأهواء.. فالصيام ليس مجرد جوع وعطش كما نعلم، ولكن الصيام تربية نفسية سامية على معنى التجرد من متع الحياة، وعلى معنى التخلص من حاجات النفس الطبيعية.. أي إحساس داخلي في النفس بالرغبة في التسامي فوق ما يحتاجه البدن، وفوق ما تهواه النفوس، وفوق ما ترتاح إليه الأبدان.. هذا هو معنى الصيام، ليس جوعا فقط، ولكن فيه معنى تربوي مهم، فهو تربية نفسية سامية.. كي تتخلص النفس من بعض عاداتها، وتتخلص من الخضوع لبعض حاجاتها.. هذا هو طريق الجهاد، والنفس القادرة على أن تتخلص من بعض هذه الحاجات الضعيفة، قادرة على الترقي لتستطيع الجهاد لتنتصر في معركة الصرع، أما النفس التي تسقط أمام لقمة، والنفس التي تقع أمام شهوة، والنفس التي لا تستطيع أن تحبس ذاتها عن متعة تافهة، لا يُتصور أن تثبت في ميدان.. فالذي لا يقدر على منع نفسه من لقمة يريدها أو شهوة يبتغيها، أيقدر على أن يقف ليقول كلمة حق أمام جائر ظالم؟!! أو يقدر أن يرفع سيفا في وجه طغيان أو في وجه الكفر الذي يواجهه..

الذي سقط في هذا الامتحان اليسير بل الذي في غاية اليسر، لا يمكن أن ينجح في غيره.. فكأنه لما شرع الصيام أراد أن يُذكر الأمة بواجب أهم، أن هذه ذكرى صراع الحق والباطل، ولن ينتصر الحق ولن تحصل النجاة إلا بقوة نفسية روحية.. إلا بأن يرجع الناس إلى الله، كي يرى الله تبارك وتعالى من أنفسهم خيرا، وهذا المعنى الذي أردت التذكير به.. نحن إذ نذكر جولة الصراع بين موسى وفرعون، لا بد أن نذكر أن النجاح دائما يحالف المؤمنين حين تقوى نفوسهم ويقوى إيمانهم، وأن بدايات النصر، هو النصر على النفس، والانتصار على الهوى، والانتصار على الشهوات.. هذه هي البدايات، وإنما رسب بنو إسرائيل بعد ذلك حين رسبوا في ميدان النفس، نجحوا يوم أن نجح بهم موسى في ميدان النفس، فلما سقطوا في نفس الميدان، ضرب الله عليهم التيه، حين كانوا لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ويلقى الرجل الرجل على المعصية فلا يمنعه ذلك أن يكون جليسه وأكيله وشريبه وقعيده، كما وضح الله عز وجل في كتابه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم.

وأحد الدروس الذي لا بد أن نستخلصها من ربط الصيام على أنه علامة شكر لهذه النعمة –نعمة النجاح والفلاح والفوز والظفر- أن طبيعة النجاح في الميدان تبدأ بالنجاح في مجال النفس، وهذا أمر مهم.. النفس الضعيفة لا يمكنها أن تثبت، ولكن النفس القوية التي تستمر في عملية الترقية الروحية والعبادية، ولا تتخلف عن سبب من أسباب القوة الروحية، هي بفضل الله النفس القادرة على أن تثبت أمام أي محنة، على أن تصمد أمام أي شدة، على أن تنتصر في أي معركة.

(3) النصر للحق وكل أزمة إلى انفراج بإذن الله:

أما الدرس الثالث، وهو أيضا من هذه العبارة: هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، فهو تذكير لنا بطبيعة هذا الصراع ونتائجه المحتومة.

ففي كثير من الأحيان تشتد الأزمة، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله.. وحين يقول الرسول والذين آمنوا معه هذه العبارة، فهذا دليل على أن المحنة بلغت مجالا عظيما، وشدة شديدة، لكن أي شدة أبلغ من أن يكون العدو خلف ظهرك، والبحر أمام ناظريك؟!! ولا مجال للهرب من هنا أو من هناك؟!!

صورة، ظن معها فرعون أن الأمور قد دانت له، وأن المسألة قد انتهت.. وظن فيها بعض المؤمنين أن قضيتهم قد كُتبت كلمة النهاية فيها، وأن رسالتهم قد قضي عليها بالزوال، فقالوا العبارة التي نحفظها، وحفظها القرآن لجميع الأمم: ]قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[  [الشعراء/61] فقد ضاقت الحلقة حتى لم يعد لأصحاب موسى ما يقولونه سوى قولهم: إنا لمدركون.. ولكن الإجابة الحقيقية التي يجب أن يلتفت لها المؤمنون، ]قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[ [الشعراء/62]

ليست المسألة بهذه الحسابات البسيطة، وإن كان لا بد من الحساب.. وليست بهذه المظاهر الخادعة، وإن كان لا بد أن توضع في الحسبان، إنما فكرة الصراع بين الحق والباطل يقف على رأس كتيبة أهل الحق فيها صاحب الحق جل وعلا، الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي يقول للشيء كن فيكون، والذي يُحول سبب الهلاك ليكون سر النجاة، والذي يبدل مواقع حروف (المحنة) لتنقلب إلى (المنحة) برحمته كيف شاء وبما شاء..

إن الذي يذكر قصة فرعون مع سيدنا موسى ويركز فيها، ليطمئن قلبا بأن الله ناصر دينه ولو كره الكافرون، ولو كره الجاحدون، ولو تآمر المتآمرون، ولو اجتمعت الدنيا بأسرها.

لقد تكررت حلقات التضييق لمنع حصول النصر من قبل ولادة المخلّص الذي سيخلص الناس من فرعون..

لقد تكاملت الحلقة يوم أن اجتهد فرعون في محو كل ذكر يتصور أنه سيأتي من وراءه النصر..

وظن فرعون أنه بلغ غايته، وحتى الذكر الذي نجا، جاء ليتربى في حجره، وليعيش على عينه، وكأنما يريد الله عز وجل أن يغيظه، وكأنما يريد أن يعلم البشرية على مدار التاريخ، كيف ينصر أولياءه، فيتربى موسى في حجر فرعون بعد أن قتل فرعون كل من لا علاقة له بأسباب النصر!! ولم يبق إلا الوحيد الذي جعل الله النصر في يديه.. وألقى عليه المحبة، حتى أخطاؤه التي ارتكبها في حجر فرعون لم يُعاقب عليها.. حتى الحالة التي صمم فيها فرعون بعد أن انكشف الأمرعلى التخلص منه، حين قتل الرجل وشاع أنه من المصلحين، نجاه الله من كيد فرعون.. وحتى هذه كانت النجاة فيها في غاية العجب؛ إذ أتاه أحد المؤتمرين ليبلغه نبأ المؤامرة!! أحد الجالسين في مجلس التآمر هو نفسه الذي يبلغ المؤامرة!!

والدرس هنا أنه كلما مرت هذه الليالي المباركة، وكلما مرت هذه الليلة الكريمة وهذا اليوم العظيم، نذكر أن هذا الصراع معلوم العواقب، وهذه مسألة حتمية، فهذا رب العزة ينقل لنا موسى من ضيق إلى ضيق، وتنتقل القصة بفرعون من قوة إلى قوة ومن قدرة إلى قدرة، لكن الذي سبق في علم الله من نصر الحق لا يمكن أن يتغير إلى أن تأتي النهاية، ويستطيع فرعون تجييش مشاعر الناس، وإيهام الناس أن موسى ومن معه سيفسدون في الأرض، ويجيش مشاعر المصريين بشكل غير مسبوق للخروج معه ضد موسى حتى يخرج بمئات الألوف، ويخرج الهمج الرعاع معه من غير سؤال بعد أن ظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون، وبعد أن انكشف السحر والساحر، ظل الرعاع، وظل الهمج الذين يتبعون كل ناعق، يستجيبون لنداء فرعون، على حد وصف الله تبارك وتعالى ]يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ[  [هود/98، 99]

الإنسان يتخيل هذا الموقف وهو يبعث رجاله في المدائن حاشرين، ويذيع في كل الأجهزة التي تبلغ الرسالة للناس، ويشجعهم إلى حرب موسى، ويدعوهم للخروج مع فرعون.. ثم يجمع هذه الجموع ويسير بها إلى هذه الشرذمة التي يقول عنها، ويبدو للناظر لمظاهر الأمور أن القصة قد وصلت إلى نهايتها.. وأنه لم يبق إلا أن يُطبق فرعون ومن معه على موسى ومن معه، فمن أفلت منهم أكلته الأسماك، ومن أمسكته يد فرعون، أو قبض عليه فرعون أهلكه السجن والحبس والقتل..

لكن هكذا تدبير الخلق.. ويبقى تدبير الخالق.. ويمكرون ويمكر الله..

والله في كثير من الأحيان، عندما يتخير الإنسان قصة من التاريخ، يشعر أن آيات القرآن وهي تتكلم، وكأنها نزلت اللحظة..

حين يقول: ­]وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[  [آل عمران/120].. فبالله أي كيد مكافيء يمكن أن يُنجي من الكيد الذي دبره فرعون، بعد أن ألجأ موسى ومن معه إلى شاطئ البحر، وصارت الجنود تُحيط به من كل جانب.. فأي تفكير، وأي ذكي يمكن أن ينجو من هذا الحصار وإلى أين ينجو؟!! لكنه الله.. الذي يبين أن الضرر لن يكون أبدا.. أين هذا التفكير من نفوس المؤمنين؟!!

ويقول في آية أخرى: ­]لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى[  [آل عمران/111] ، وفي تفسير هذه الآية قولان:

الأول: أن الضرر سوف يحدث ولكنه بسيط، وهو عبارة عن بعض الأذى.

والتفسير الآخر: أن الضرر لن يحدث، كما قال الله: لن يضركم كيدهم شيء، وعبارة إلا أذى هي استثناء منقطع، يبين أن الأذى هنا لا يعتبر ولا يعد ضرر، فمن الأذى أن يمشي الإنسان فتنزلق قدمه أو يجد الطريق فيه أذى أو صعوبة، ولكنه ليس ضررا..

وكأن الله يريد أن يقول أن كل ما يصيبكم أيها المجاهدون في سبيلي ليس شيئا، ومع صبركم وإيمانكم ويقينكم فإنكم ستبلغون غايتكم بإذن الله..

وهذا درس.. وهو النجاة.. ونجاة موسى تختلف عن ألوان كثيرة من أسباب النجاة في أنها عمل خالص لله بعد أن بلغ الكيد الباطل أوجه، لكن لله في خلقه شئون..

وإلى لقاء مع الدرس الرابع بمشيئة الله تعالى.