حقيقة البشرى في الكتاب والسنة

رضوان سلمان حمدان

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

هذا الإله العظيم الجليل الكبير، هذا الإله الرحيم الكريم الودود، يبشر عباده المؤمنين في كتابه.. يقول صاحب العزة والجبروت: ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾.. هكذا بهذه الصياغة العجيبة المعجزة!! والله لو تنزل من آيات البشرى غيرها لكفت!!.. هذا الإله القادر المقتدر يتعهد بنصر المؤمنين، ويجعله حقاً عليه سبحانه.. ليس هذا نصراً في الآخرة فقط بدخول الجنة، ولكنه نصر في الدنيا كذلك.. قال سبحانه ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ ]غافر[51. هكذا الوعد: نصر في الدارين، في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.. إن كان هناك مؤمنون، فلا بد لهم من نصر، هكذا وعد، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.. فلنستمع إلى قوله تعالى ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ]النور [5.. فإذا توفر الإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة دون الشرك به سبحانه، كان الاستخلاف في الأرض، وكان التمكين للدين، وكان الأمن بعد الخوف.. من الذي وعد بذلك؟ إنه جبار السماوات والأرض، مالك الملك ذو الجلال والإكرام..

لننظر إلى هذه الصورة الرائعة الجليلة في غزوة بني النضير يقول سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا.. (أنتم أيها المؤمنون المقاتلون المجاهدون لما رأيتم مناعة الحصون وبأسها ظننتم أن اليهود لن يهزموا) وَظَنُّوا (أي اليهود) أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ (ماذا حدث؟) فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ (ثم ما هو التعليق على الحدث؟) فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ ]الحشر[2. الغاية من القصة أن نعتبر.. القرآن ليس تأريخاً لما سبق لمجرد التأريخ.. القرآن كتاب عظيم، ينبض بالحياة، ويهدي إلي صراط مستقيم..

يقول رسولنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه: « إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَوَى لِىَ الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا »[1] .. نعم، سيبلغ ملك المسلمين مشارق الأرض ومغاربها ، بكل ما تحمله الكلمة من معاني...

وها هو مرشدنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وابن حبان وصححه الألباني عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه سلم يقول:»  لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ (يعني الإسلام) مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ (أي كل الأرض) وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ (أي كل بيوت الأرض: بيوت المدن وبيوت البادية سيدخلها الإسلام) بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ». وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِى أَهْلِ بَيْتِى لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِراً الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ »[2]. وعد من الصادق المصدوق صلى الله عليه سلم.. ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ] النجم [.

بل لنستمع ونتأمل إلى ما رواه الإمام أحمد وصححه الألباني عن أبي قبيل رحمه الله قال: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسُئِلَ أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حِلَقٌ. قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَاباً. قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةَُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- « مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً ». يَعْنِى قُسْطَنْطِينِيَّةَ.

والقسطنطينية هي عاصمة الدولة الرومانية الشرقية آنذاك وهي إستانبول الآن، ورومية هي روما، وكانت عاصمة الدولة الرومانية الغربية، وكانتا معاقل النصرانية في العالم، ويفهم من الحديث أن الصحابة كانوا يعلمون منه صلى الله عليه سلم أن هاتين المدينتين ستفتحان، لكن يسألون أي المدينتين تفتح أولاً فبشر رسول الله صلى الله عليه سلم بفتح القسطنطينية أولاً، وقد كان، وتحققت البشارة النبوية بعد أكثر من ثمانمائة سنة!!.. وبالضبط في 20 جماد الأولى سنة 857 هجرية، على يد الفتى العثماني المجاهد محمد الفاتح رحمه الله، وستحدث البشارة الثانية لا محالة، وسيدخل الإسلام روما عاصمة إيطاليا إن شاء الله تعالى.  وعلى هذا الحديث تعليقان:

التعليق الأول: هو أن بعض العلماء يعتقدون أن فتح رومية (أو روما) سيكون بالدعوة إلى الإسلام وبإنشاء المراكز الإسلامية والمساجد فقط، ويستبعدون الفتح عن طريق الجهاد، والحق أن الحديث لم يشر إلى ذلك، بل إن قصر تفسير فتح رومية على الدعوة دون الجهاد هو نوع من الهزيمة النفسية، فالذي يقول ذلك لا يتخيل أنه بالإمكان أن يحرك المسلمون جيشاً لإيطاليا، فلتكن الدعوة إذن هي التفسير للحديث!.. لكن على العكس من ذلك.. فإن سياق الحديث يوحي بأن الفتح سيكون جهاداً.. وسياق الواقع كذلك، فقد فتحت القسطنطينية بعد حلقات متتالية من الجهاد المضني المستمر، وقد تفتح رومية بطريق متشابهة، ولذلك جمعت مع القسطنطينية في حديث واحد، ولتعلمن نبأه بعد حين!!..

التعليق الثاني: هو أن محمد الفاتح رحمه الله كان يعد العدة، ويجهز الجيوش فعلاً لفتح رومية وذلك لاستكمال تحقيق البشارة النبوية، لكنه لم يوفق لذلك؛ حتى تبقى بشارة رسول الله صلى الله عليه سلم تبعث الأمل في نفوسنا، وحتى يبقى لنا شئ نفتحه، وإلا فأين دورنا؟! أليس لنا من دور غير التصفيق لأجدادنا الفاتحين؟!.. أبداً.. نحن إن شاء الله على دربك يا رسول الله سائرون، ولما بقي منك يا محمد الفاتح - إن شاء الله – فاتحون.

                

[1]. حديث 7441 - باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض - كتاب الفتن وأشراط الساعة.

[2]. حديث 17420 - حديث تميم الدارى - مسند أحمد. ] المدر هو الحجر أي بيوت المدن ، والوبر هو الشعر أي بيوت البادية [