ذكر الصالحين

د. بدر عبد الحميد هميسه

[email protected]

ذكر الصالحين ومراجعة سيرهم وتشنيف الأذان بسماع أخبارهم ، مما يثلج صدور المؤمنين وينزل السكينة في قلوب الموحدين ، فهم القدوة والمثل ، والنموذج الأسمى في تطبيق أخلاق الإسلام .

 وقد كان القرآن الكريم يقصُّ علينا أخبار الأنبياء الكرام ، فنحسُّ بالقمم الإنسانية الشامخة ترنو إلينا ، فستنهض هممنا ,  ويقص علينا أخبار الصالحين من غير الأنبياء ، الذين كان لهم الدور الكبير في نشر كلمة لا إله إلا الله ، وإعلائها ، وتَحَمُّلِ الأذى ، والصبر عليه .

فكما قص علينا القرآن الكريم قصة  سيدنا نوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام  , كذا قص علينا طرفاً من قصص الصالحين من أمثال : لقمان الحكيم الذي شكر الله ، فآتاه الله الحكمة فكان داعية إلى الله ، يعظ الناس ، ويدلهم إلى الصراط المستقيم ,وقد ذكر الله سورة باسمه سمها سورة لقمان ,  وكذا ذي القرنين : الذي مكن الله تعالى له في الأرض ، غربها وشرقها ، فنشر التوحيد ، وقاتل الكفار ، وبنى سدّ يأجوج ومأجوج ، وقصته في سورة الكهف ( 83 ـ 98 ) و مؤمن يس : فقد أرسل الله تعالى ثلاثة من الأنبياء إلى إحدى المدن ، يدعون أهلها إلى الإيمان ، فكذّبوهم ، فجاء " حبيب النجار " يسعى إلى جمعهم مؤيداً هؤلاء الأنبياء الكرام ، فما كان من المجرمين إلا أن قتلوه ، فدخل الجنة معززاً مكرّماً ، وقصته في سورة يس الآيات ) 20 ـ 27) ومؤمن فرعون : الذي آمن بموسى واتبعه دون خوف من فرعون وملئه ، ودعا الناس إلى الإيمان بالله تعالى وإتباع موسى ، فهو سبيل الرشاد ، وخوّفهم من عذاب الله ومصير الأمم السالفة ، وموقفه في سورة غافر الآيات (28 ـ 44 ).

وفي الأثر : قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي، وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِيْنَ يُذْكَرُوْنَ بِذِكْرِي، وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِم. أخرجه أحمد 3 / 430 وإسناده ضعيف.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لقيت الله لولا أن أضع جبهتي لله أو أجلس في مجالس ينتقى فيها طيب الكلام كما ينقى جيد التمر أو أن أسير في سبيل الله عز و جل. حلية الأولياء 1/51.

وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه قال لولا ثلاث خلال لأحببت أن لا أبقى في الدنيا فقالت وما هن فقال لولا وضوع وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار يكون تقدمه لحياتي وظمأ الهواجر ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة . حلية الأولياء 1/212.

وذكر الصالحين وتتبع سيرهم فيه فوائد كثيرة منها :

1- الاقتداء بهم والاعتبار بمواعظهم وأحوالهم: يقول ابن الجوزي رحمه الله: (وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم).  انظر : صيد الخاطر (440).

وذكر الذهبي في (السير): عن نُعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك يُكثر الجلوسَ في بيته، فقيل له: ألا تستوحِش؟ فقال: كيف أستوحِشُ وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟‍! اهـ

قال ابنُ الأعرابي:

لنا جُلَساءٌ ما نَمَلُّ حديثَهم* * * ألِبَّاءُ مأمونون غَيْبًا ومَشْهدا
يُفيدوننا من علمهم علمَ ما مضى* * * وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مُسَدَّدا
بِلا فتنةٍ تُخشى ولا سوء عِشْرةٍ* * *ولا يُتَّقَى منهم لسانًا ولا يدا
فإن قلتَ: أمواتٌ فلا أنتَ كاذِبٌ * * * وإن قلتَ: أحياءٌ فلستَ مُفنَّدا

2- صلاح القلب ونزول الرحمة : قال أحمد ابن حنبل يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول تنزل الرحمة عند ذكر الصالحين. ابن المنذر : أحاديث في ذم الكلام وأهله 5/174.

قال الثوري -رحمه الله: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. الغزالي : الإحياء 2/ 211.

قال محمد بن يونس: ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين . مختصر صفة الصفوة 7.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: " رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين. لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. صيد الخاطر 71 .

قال إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول سمعت بشر بن الحارث يقول حسبك أن أقواما موتى تحيى القلوب بذكرهم وأن أقواما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم . تاريخ دمشق 10/214.

وإذا سمعت بذكرهم بين الورى * * *  فيصير قلبي من جواه يخفق

وقال ابن تيمية رحمه الله: "الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور وبالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح"  . الخطيب : اقتضاء العلم العمل 1/21.

قال أحدهم :

لك الحمد إن أشغلت قلبي بذكرهم * * *  وشرفت ما أملى يوصف المحبة

فهم نور عيني والجمال بحفهم * * *  وهم روح جسمي والحياة بجملة

لك الحمد فارحمني إذا ما ذكرتهم * * *  بوصف جميل وأصلح الله نيتي

3- معرفة الإنسان قدر نفسه:  قال حمدون القصار رحمه الله: "من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال".. الشاطبي : الاعتصام 68.

وذكر عند مخلد بن الحسين رحمه الله أخلاق الصالحين فقال:

لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم * * * ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

وقال ابن الجوزي : " ومن نظر في سير السلف من العلماء العاملين استقر نفسه فلم يتكبر ومن عرف الله لم يراء ومن لاحظ جريان أقداره على مقتضى إرادته لم يحسد. تلبيس إبليس 116.

قال الشاعر :

يا من يذكرني حديث أحبتي * * * طاب الحديث بذكرهم ويطيب

اعد الحديث على من جنباته * * * إنَّ الحديث عن الحبيب حبيب

4-  محبة الصالحين والاعتزاز بهم : لأن قراءة تراجمهم والوقوف عند أحوالهم تبعث على ذلك فطوبى لمن أحبهم في الله ولله جل وعلا, عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛أَنَّ رَجُلاً قََالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ؟ قَالَ : لاَ ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، قَالَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.قَالَ أَنَسٌ : فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ ، بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ. رواه أحمد (13419 و13886) ، وعَبْد بن حُمَيْد (1296) ، ومُسْلم (7520) .

قال الشاعر :

لا تنكرُ الأعداءُ معروفاً لهم * * * بمكارم لأكارم لم تجحد

حَدِّثْ ولا حرجٌ عليك بذكرهم * * * وأَعِدْ حديثَك ما استطعت وردّد

5-  الاستفادة من  خلاصة تجاربهم وعصارة فكرهم , وقال الإمام ابن الجوزي: "واعلم أن في ذكر السير والتاريخ فوائد كثيرة، من أهمها أن يطلع بذلك على عجائب الأمور، وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وسماع الأخبار، فالنفس تجد راحةً بسماع الأخبار، قال أبو عمرو بن العلاء : قيل لرجل من بكر بن وائل قد كبر وذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح؛ قيل له: أتحب أن تموت؟ قال: لا، قيل له: فما بقي لك من لذة الدنيا؟ قال: أستمع أخبار الرجال وأستمع العجائب", ونقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: "سير الرجال أحب إليَّ من كثير من الفقه".المقري : أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 1/ 6.

قال الشاعر :

فحى أهلا بهم أهلا بذكرهم * * * الطيبين ثناء أينما ذكروا

أشخاصهم تحت أطياف الثرى وهم * * * كأنهم بين أهل العلم قد نشروا

فالصالحون إذا اجتمعوا ذكروا الله، والفجرة إذا اجتمعوا تذاكروا ما يقربهم من الشيطان، فذكر المعرضين غناء ومجون وسفه وغيبة ونميمة وفحش , وذكر الصالحين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، قال الشاعر :

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم * * * إن التشبه بالكرام فلاح

فأكثر من ذكر الصالحين حتى تتشبه بهم وتقتفي أثرهم وتنسج على منوالهم , وتحيا حياتهم , وتفوز معهم .