أيها المؤمنون أنفقوا

رضوان سلمان حمدان

النداء التاسع

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ البقرة267

المعاني المفردة[1]

أَنفِقُواْ: زكوا

مِنْ طَيِّباتِ: جياد وحسان، مفرده طيب أي جيد مستطاب، وضده الخبيث المستكره.

وَلاَ تَيَمَّمُواْ:  ولا تعمدوا ولا تقصدوا. والأصل تَتَيَمّموا فادغم التاء في التاء.

الْخَبِيثَ: الرديء غير الجيد.

تُغْمِضُواْ: الْغَمَضُ: ما تطامن من الأرضِ. وأَغْمَضْت في السِّلْعة استَحْطَطْت من ثمنها لرداءتها، قيل أغمضت عنه إذا تجاوزت. الإغْماض: المُسامَحة والمُساهلَة.

حَمِيدٌ: محمود في الأرض والسماء في الأولى والأخرى لما أفاض ويفيض من النعم على خلقه.

سبب النزول[2]

عن البراء بن عازب قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظنّ أن ذلك جائز، فأنزل الله عزّ وجلّ فيمن فعل ذلك: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ قال لا تيمموا الحَشَفَ منه تنفقون، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.

في ظلال الآية[3]

نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم. تشمل

ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول. ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهوداً على عهد النبي - صلى الله علي

وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء، لا بأس من ذكره، لاستحضار حقيقة الحياة التي

 كان القرآن يواجهها؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .

روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : « نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر ، يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك : ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ. .

وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.

ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء رضي الله عنه - قال: نزلت فينا. كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي رجل بالقنو، فيعلقه في المسجد. وكان أهل الصفة ليس لهم طعام. فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه، فسقط منه البسر والتمر فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾. قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء. فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده.

والروايتان قريبتان. وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض. وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي : نقص في القيمة بينما كانوا يقدمونه هم لله!!

ومن ثم جاء هذا التعقيب:

﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾. . غني عن عطاء الناس إطلاقاً. فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيباً ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك . حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . . ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلاً . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ . . ﴾ . . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون منه صدقاتكم! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر.

وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل! أي إيحاء! وأي إغراء! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب!

هداية وتدبر[4]

1. التوجيه هنا يتطلب شيئين الأول: الإنفاق من الطيبات خاصة، والثاني: الإنفاق من الكسب وهو ما يُكسب بالبذل والجهد.

2. إن المال الذي أمر الله بإنفاقه في سبيل الله ينبغي أن يكون حلالاً طيباً.

3. إنه نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم. تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول. ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يستجد. فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان. هو قول أبي حنيفة رحمه الله، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً.

4. الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة، أو مقاولة في تجارة وهو البيع. والميراث داخل في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه.

5. دلّت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث روى الدّارَقُطْنِيّ عن أبي أُمامة عن أبيه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السُّحَّل بكبائس ـ قال سفيان: يعني الشِّيص ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن جَاء بهذا»؟! وكان لا يجىء أحد بشيء إلاَّ نُسب إلى الذي جاء به. فنزلت: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾. قال: ونَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور وَلَوْن الحُبَيق أن يؤخذا في الصدقة» ـ قال الزهريّ: لونين من تمر المدينة ـ وأخرجه الترمذيّ من حديث البراء وصححه.

6. َنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَلا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ وَلا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ وَلا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ إِنَّ الْخَبِيثَ لا يَمْحُو الْخَبِيث"[5]]

7. إن هذه الآية تعطي صوراً تحدث في المجتمع البشري. فأراد الله أن يجنب المسلمين هذا الموقف، حتى لا يجعلوا لله ما يكرهون.

8. عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"[6]

99. كيف يروق لكم أن تتصدقوا بالخبيث الرديء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم إلا أن تتساهلوا وتتسامحوا فيه تساهل من غض بصره عن شيء فلم ير العيب فيه، ولو كان لأحدكم حق أو دين، فجاءكم دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! فحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه.

               

[1] . تفسير الطبري. المخصص ـ لابن سيده. إعراب القرآن- النحاس. المصباح المنير. النهاية في غريب الحديث والأثر. تفسير أيسر التفاسير. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج.

[2] . تفسير الطبري.

[3] . في ظلال القرآن.

[4] . انظر: في ظلال القرآن. تفسير الرازي. تفسير القرطبي. تفسير ابن كثير. خواطر الشعراوي. التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج.

[5] . مسند الإمام أحمد بن حنبل 3672.

[6] . البخاري1442.