لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ 47

رضوان سلمان حمدان

لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ

47

التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة

في الأرض خيانة لله والرسول

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) } الأنفال

المعاني المفردة([1])

تَخُونُواْ: الخيانة: النقص وإخلاف المرتجى. ولذا يقال لنقيضها ، "وفى". فيقال خان الأمانة ، بمعنى نقصها ، ويقال وفاها أى أداها على وجهها.

أَمَانَاتِكُمْ: ما ائتمنتم عليه من الدّين وغيره من التكاليف الشرعية ، والأمانة : كل حق يجب أداؤه إلى الغير. الأمانة هي: الدين، فالدين كله أمانة.

فِتْنَةٌ: اختبار، وابتلاء بما يشق على النفس فعله أو تركه. وهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء ، فيمتحن اللّه المؤمن والكافر على السواء.

الإعراب([2])

«لاَ»: ناهية . «تَخُونُواْ»: مضارع مجزوم بلا الناهية ، والواو فاعل ، ولفظ الجلالة مفعول به ، «وَالرَّسُولَ»: عطف على اللّه «وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» الواو: يجوز فيها أن تكون واو المعية ، فيكون «تَخُونُواْ» منصوباً بأن مضمرة بعدها ، لأنها وقعت جواباً للنهي ، ويجوز أن تكون عاطفة فيكون «تَخُونُواْ» مجزوماً داخلاً في حكم النهي. ولعل الثاني أولى ، لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته ، بخلاف الأول ، فإن فيه النهي عن الجمع بينهما. ولا يترتب على النهي عن الجمع بين الشيئين النهي عن كل واحد على حدته. و«أَمَانَاتِكُمْ» مفعول به على تقدير محذوف ، أي أصحاب أماناتكم. «وَأَنتُمْ» الواو للحال ، و«أَنتُمْ» مبتدأ ، وجملة «تَعْلَمُونَ» خبر ، وجملة «أَنتُمْ تَعْلَمُونَ» حالية ، وحذف مفعول يعلمون للعلم به ، أي تعلمون أن ما وقع منكم خيانة.

سبب النزول([3])

نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير على أن يسيروا إلى أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن ولده وأهله كانوا عندهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح فلا تفعلوا فأطاعوه فكانت تلك خيانته قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ونزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس والأكثرين وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد وقال والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أويتوب الله علي فمكث سبعة أيام كذلك ثم تاب الله عليه فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء فحله بيده فقال أبو لبابة إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزئك الثلث.

في ظلال النداء([4])

إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية : « لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية؛ والأخذ في هذا بما بلغه محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة؛ ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحياناً قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحياناً كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقاً لقول الله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .

هذه هي قضية هذا الدين - اعتقاداً لتقريره في الضمير ، وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة لله والرسول؛ يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان؛ فأصبح متعيناً عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي؛ والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .

كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان ، وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله؛ وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق؛ ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته ، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء؛ وتأمين الحق والعدل للناس جميعاً؛ وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت؛ وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .

وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها؛ وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه ، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .

وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال؛ وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد ، وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم ، المدخر لعباده الأمناء على أماناته ، الصابرين المؤثرين المضحين : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم } . .

إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية ، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي ، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن ، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك!

وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء؛ ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها؟ أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟ : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء والعطاء أيضاً! ومن الرخاء والعطاء هذه الأموال والأولاد . .

هذا هو التنبيه الأول : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } . .

فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار ، كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة والاحتياط؛ أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .

ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف؛ وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد! إنما يلوِّح له بما هو خير وأبقى ، ليستعين به على الفتنة ويتقوى : { وإن الله عنده أجر عظيم } . .

إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد ، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف ، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه : { وخلق الإنسان ضعيفاً } إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور ، والتربية والتوجيه ، والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم؛ لأنه هو الذي خلق : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ }.

هداية وتدبر([5])

1.  يقول الإمام الطبري: أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم.

2.  قال ابن زيد في قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ, قال : نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون . وقال ابن عباس : لاَ تَخُونُواْ اللّهَ : بترك فرائضه ، وَالرَّسُولَ : بترك سنته ، وارتكاب معصيته ،  وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ والأمانة : الأعمال لا تنقصوها .

3.  يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم الله عليه من أوامره ونواهيه . فإن الأمانة قد عرضها الله على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل ، ومن لم يؤدها بل خانها ، استحق العقاب الوبيل ، وصار خائنا لله وللرسول ولأمانته ، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ، وأقبح الشيات ، وهي الخيانة ، مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها ، وهي : الأمانة . ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده ، فربما حملته محبته ذلك ، على تقديم هوى نفسه ، على أداء أمانته.

4.  الأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ، وأنهما عارية ، ستؤدى لمن أعطاها ، وترد لمن استودعها " وأن الله عنده أجر عظيم " . فإن كان لكم عقل ورأي ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة ، فالعاقل يوازن بين الأشياء ، ويؤثر أولاها بالإيثار ، وأحقها بالتقديم .

5.  إن الرجل لحبه لولده قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته ، وكذلك قد يؤثر زيادة حفظه أو ماله يأخذ ما لا يستحقه أو محاباة مَنْ يُدَاهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته ، ثم إن المؤدي الأمانة ، مع مخالفة هواه ، يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده ، والمطيع لهواه يعاقبه بنقيض قصده ، فيذل أهله ويذهب ماله.

6.  دلت سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها ، مثل قوله لأبي ذر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في الإمارة : " إِنَّهَا أَمَانَةُ ، وَإِنَّهَا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حسرة وَنَدَامَةٌ . إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ " . فيما رواه مسلم . وروى البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : " إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " . قيل : يا رسول الله ! وما إِضَاعَتُهَا ؟ قال : " إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " .وقد أجمع المسلمون على هذا . وقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : " الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه ، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات " ، وهو حديث صحيح ، بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذيّ ، وقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : " مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاها اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ " ، رواه البخاريّ .

7.  خيانة الله ورسوله ، تشمل عدم إطاعة الشرع ، ومخالفة نواهيه ، وترك الجهاد ، وإفشاء أسرار المؤمنين ، وإعلان ما أمر الله بكتمانه ، والغلول فى الغنيمة قبل قسمتها ، والكيد لجماعات المسلمين ، واتخاذ بطانة من غيرهم ، وموالاة أعداء الحق ، وفى الجملة مناوأة أهل الحق سراً وباطناً ، فهذه كلها خيانة لله ورسوله ، وعدم رعاية الأمانات ، ومناصرة الظالم ، ومعاونته على الظلم وعدم مراعاة الأمانات ، وفى الجملة تشمل خيانة الله ورسوله كل خيانة للشريعة ، سواء أكانت تتعلق با لآحاد والجماعات. ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه ، ومجاوزة حدوده ، وفي خيانة رسوله رفض سنته ، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر ، وكل ما تعبدوا به . وقد روي في نزول الآية شيء مما ذُكر . ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره .

8.  النهى عن خيانة الله وخيانة رسوله هى واحدة ، لأن ما يطلبه الله يطلبه رسوله ، ولكن ألحق جلاله مع النبي أو النبي مع الله ؟ لتأكيد المعنى فى أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله ، ولبيان أن الرسول لا يطلب إلا ما يطلبه الله تعالى ؟ ولأن يبين أن نصرة الرسول نصرة لله ، ومحبة الرسول محبة لله {قل إن كنتم تحبون الله فماتبعوني ئحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم...} ، وان خيانة الرسول خيانة لله تعالى.

9.     وقد دلت هذه الآيات هنا على ما يلي([6]) :

1- تحريم الخيانة المتعمدة مطلقاً ، وإيجاب الأمانة : وهي أداء التكاليف الشرعية ، والأعمال التي ائتمن اللّه عليها العباد ، أي الفرائض والحدود. وأما الخيانة : فهي الإخلال بالواجبات ، والتقصير في أداء الفرائض ، وإفشاء الأسرار ، وعدم ردّ الودائع والأمانات إلى أصحابها ، وتضييع حقوق الآخرين.

2- الأموال والأولاد فتنة واختبار يمتحن به المؤمن الصادق الإيمان ، فإن كان كسب المال حلالاً وإنفاقه في وجوه الخير ، نجا صاحبه من إثمه وطغيانه ، وإن ربي الوالد ولده تربية دينية خلقية ، وأطعمه الحلال الطيب ، خلص من الحساب يوم الآخرة. وإن كان العكس في كل ذلك عرّض نفسه للعقاب والإثم.

3- قوله تعالى : وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.. تنبيه على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم شرفا ، وأتم فوزا ، وأخلد مدة وأثرا لأنها تبقى بقاء لا نهاية له ، لذا وصف اللّه تعالى الأجر بالعظم.

10.        لا خيار في أن تكون أميناً أو ألا تكون أميناً، فمقتضى أن تكون مؤمناً أن تكون أميناً؛ لأن الإيمان والأمانة متلازمان، فلا يمكن أن يكون إيمان بدون أمانة؛ لأنه خلق المؤمن؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) .

حكاية([7])

سأل بعض خلفاء بني العباس بعض العلماء أن يحدّث بما أدرك ، فقال : أدركت عُمَر بن عبد العزيز ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ! أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم ، وكان في مرض موته ، فقال : أدخلوهم عليّ ، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكراً ، ليس فيهم بالغ ، فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال : والله ! يا بني ! ما منعتكم حقاً هو لكم ، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فادفعها إليهم ، وإنما أنتم أحد رجلين : إما صالح فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله ، قوموا عني .

قال : ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله ، يعني أعطاها لمن يغزو عليها .

- هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وغيرها من جزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها ، إلى أقصى اليمن ، وإنما أخَصَّ كلَّ واحد من أولاده من تركته شيئاً يسيراً ، يقال أقل من عشرين درهماً - .

قال : وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه ، فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار ، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس ، أي : يسألهم بكفه.

من الخيانات([8])

الخيانة ثلاثة أقسام:

الأول : خيانة على المستوى العالمي : إنها الخيانة التي فاح عفنها ونتنها في كل البقاع والأصقاع، إنها خيانة عالمية، خيانة يخطط لها في البيت الأبيض، وفي البيت الأحمر في الكرملن، مروراً بمنظمة هيئة الأمم المتحدة، ومروراً بحلف الأطلسي، ومروراً بالنظام والاتحاد الأوروبي، كل هذه الهيئات وكل هذه المنظمات وكل هذه الأحلاف الدولية تؤصل الآن للخيانة تأصيلاً، إنها خيانة أزكمت الأنوف بعفنها ونتنها، فأي قانون وأي عرف وأي جيل يقر هذه الخيانة العفنة التي تجري الآن منذ عقود على أرض فلسطين؟! وأي عرف وأي ميثاق يقر هذه الخيانة العفنة النتنة التي تمارس على خشبة المسرح العالمي؟ لقد جلس النظام الغربي على مقاعد هذا المسرح العالمي ليصفق بقوة وحرارة وجدارة للجندي اليهودي الجبان الغشوم الظالم، وقف النظام الغربي الخائن كله ليصفق لهؤلاء المجرمين، بل ليمنحهم السلاح لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم كله، فبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في فلسطين، وبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في العراق، وبسلاح أمريكي خائن ضرب جنوب السودان، وضربت أفغانستان، وفي كل موقع من المواقع الآن، لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي الهزيل المريض، وعلى مرأى ومسمع من العالم الغربي الخائن الذي تفوح منه الخيانة بعفنها ونتنها . . إن البشرية الآن تشهد من صنوف الخيانة وألوان الوحشية والبربرية والهمجية ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات، واسمحوا لي أن أكرر هذه الكلمات: أقول: والله! إن البشرية الآن تشهد في ظل قيادة الرجل الغربي الخائن من صنوف الوحشية والبربرية والخيانة ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعلها ببعضها البعض في عالم الغابات.

الثاني : خيانة على مستوى الأمة : ما خان الغربي إلا يوم أن تخلت أمة الأمانة عن الأمانة، وما تولى الرجل الغربي قيادة العالم وقيادة الأمة إلا يوم أن وقعت الأمة في الخيانة؛ فلقد خانت الأمة ربها ورسولها . . خيانة بتضييع الفرائض، وخيانة بالتفريط في السنة، وتغييب الشريعة، وخيانة بتضييع الأمانة وتوسيد الأمر إلى غير أهله، فأمة لا تقدم الأكفاء أمة خائنة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً للمحسوبية أو للعنصرية البغيضة أو للعصيبة الجاهلة؛ أمة خائنة لا تستحق السيادة ولا العزة ولا الكرامة.

الثالث : خيانة على مستوى الأفراد : "خيانة الكلمة"، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ). و"خيانة العلم"، ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، ومن تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار ). و"خيانة المجالس"، فقد يجلس المسلم مع أخيه ويخرج بعد ذلك لينقل كل ما دار بينهما في المجلس، من فعل هذا فهو خائن؛ إنما المجالس بالأمانة، ( إن من أشر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها ). و"خيانة الأولاد"، (ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في همّ الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا). و"خيانة الوظيفة"، بأخذ الرشاوى، أو بتضييع العمل مع حاجة العمل إليه، بدعوى أن الراتب لا يتلاءم ولا يتواءم مع الجهد الذي يبذله! أو بالتعسير على المسلمين وتعطيل مصالحهم. و"خيانة الدَين"، ( من أخذ أموال الناس ينوي أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله ).

من الأمانات

أمانة العمر : الوقت والعمر جعله الله وعاءً لك لتملأه بالإيمان والعمل الصالح، هذا أمانة؛ لأنه ساعات محدودة، وأنفاس معدودة، يوم يذهب ولا يعود.

أمانة المال وحفظها : ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به ).

الأمانة بين العبد وربه : وهي كثيرة ومنها : أمانة العقيدة والتوحيد. أمانة الصلاة. أمانة الزكاة، أمانة الصيام. أمانة الحج.

الأمانة بين العبد وبين الناس : ومنها : أمانة بر الوالدين. أمانة الزوجة. أمانة الجار وحقوقه. أمانة طاعة ولي الأمر في غير معصية. أمانة الإخلاص للناس وحبهم.

الأمانة بين العبد ونفسه : ومنها : أمانة الجوارح،(العين، الأذن، اللسان). أمانة اليد والرجل. أمانة الفرج والبطن.

               

[1] . زهرة التفاسير. التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج.

[2] . إعراب القرآن وبيانه.

[3] . زاد المسير في علم التفسير

[4] . في ظلال القرآن.

[5] . انظر: توفيق الرحمن. فيض الرحمن تفسير جواهر القرآن. محاسن التأويل. زهرة التفاسير.

[6] . انظر: التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج.

[7] . انظر: محاسن التأويل.

[8] . من دروس للشيخ محمد حسان.