بعد رمضان

أ.د. محمود السيد داود

"ولعلكم تشكرون"

أ.د. محمود السيد داود

أستاذ السياسة الشرعية المشارك

بجامعة البحرين وجامعة الأزهر

[email protected]

من رحمة الله عز وجل بالمسلمين فى هذه الأمة أن أحكام الإسلام تلازمهم فى كل حال، وترافقهم فى كل زمان ومكان، ولا يوجد فى الإسلام ما يعرف عند القانونيين بمنطقة الفراغ القانونى أو الخواء التشريعى، عندما يتم إصدار القانون ثم يكتشف بعد ذلك أنه لا يعالج مسألة من مسائله أو قضية من القضايا التى تتصل به، فتكون هذه المسألة أو تلكم القضية محل فراغ قانونى وتشريعى، وعلى أثرها يقوم المشرع الوضعى بتدارك هذا الفراغ عن طريق التعديل أو التغيير لهذا القانون، أما الإسلام  فلا يوجد فيه مثل هذا الأمر، وهو يملأ بأحكامه كل حياة المسلم، وهو كبير أو صغير، وهو صحيح أو مريض وهو غنى أو فقير وهو رئيس أو مرؤوس... فى صلاته أو زكاته أو سائر عباداته وأعماله... وبخصوص الصوم فقد ملأ الله عز وجل حياتنا بأحكامه الواردة فى القرآن والسنة، ومن أهمها ماورد فى قوله تعالى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .. " من الآية 85 من سورة البقرة، لكن إذا انتهى رمضان وانتهت معه فريضة الصوم العظيمة فماذا بعد؟، لم يترك الله عز وجل هذه المنطقة، منطقة ما بعد رمضان، لتكون محل فراغ تشريعى وإنما ملأها الله عز وجل بما يناسبها من أحكام وشعائر، فقال فى ختام نفس الأية السابقة حتى تكون الأحكام موصولة كتواصل الأيام: "وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ...".

وعلى هذا فإن الله عز وجل يشرع لعبادة بعد رمضان بعض الأمور الموصولة به، ومنها إكمال عدة رمضان، لمن فاته صيام بعض أيامه لعذر أو لغيره، كما يشرع لنا التكبير بعده، زينة لأيام العيد وتمييزا لها، حتى نملأ بالتكبير أفواهنا، ونعطر به أجواءنا، ونرطب به ما جف فى حياتنا، ثم يشرع لنا شعيرة الشكر الخاصة بهذه الأيام فى ختام نفس الآية السابقة بقوله " وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "، لكن لماذا شعيرة الشكر بصفة خاصة فى هذه الأيام؟ المدقق فى هذه الشعيرة العظيمة يمكن أن يجد بعض أسرارها فيما يلى :

أولا : لأن الله عز وجل وفقنا إلى طاعته وعبادته فى رمضان، بل ورزقنا النشاط فى هذه العبادة والاجتهاد فيها، وتلك من أكبر النعم التى تستحق غاية الشكر، لقد وفقنا الله عز وجل إلى الصيام فصمنا، وإلى القيام فقمنا، وإلى القرآن فتلونا وعملنا، وإلى الاعتكاف فاعتكفنا، وإلى الصدقة فتصدقنا، وأحيانا إلى العمرة فاعتمرنا، وهذه من أجل نعم الله على عباده التى تستحق الشكر، فقد صام الصائمون وغيرهم محرومون، وقام القائمون وغيرهم مبعدون، وتصدق المتصدقون وغيرهم يبخلون، واعتكف المعتكفون وغيرهم كسالى نائمون، واعتمر القادرون وغيرهم مفرطون، ووقف الجميع بين يدى الله عز وجل فى محرابهم وقد دمعت أعينهم وخشعت قلوبهم ، ووضعوا ذنوبهم بين يدى ربهم معترفين ونادمين، سائلين الله عز وجل أن يغفرها لهم، وتلك أمور لا ينالها الإنسان ولا يقوم بها إلا بتوفيق الله عز وجل له " وما توفيقى إلا بالله "

وإذا لم يكن عون من الله للفتى         فأول ما يجنى عليه اجتهاده

ثانيا: لأن الله عز وجل شرع العيد بعد رمضان فرحة وحبورا وبهجة وسرورا للصائمين، ولقد أثبت النبى صلى الله عليه وسلم هذه الفرحة بقوله فى صحيح مسلم: " لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ : فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ ... "، وقد روى الحاكم فى المستدرك أيضا إثباتا للفرحة والسرور واللعب المباح فى هذه الأيام، أنه لما " قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما فقال : ما هذان اليومان ؟ قالوا : يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما، يوم الأضحى و يوم الفطر " وتلك نعمة تستحق أيضا خالص الشكر لله عز وجل، لأن الأعياد فى حياة المسلمين الصائمين تمثل واحات السرور والبهجة فى صحراء الحياة القاحلة، ولذا يقبل عليها المسلمون كما تقبل القافلة فى الصحراء على ظلال الواحات ومائها العذب الفرات، لتطفئ ظمأها وتجدد نشاطها، وتتهيأ لغدها، ويأتون منها بعزم جديد ونفس راضية وصدور منشرحة، لتقبل بعد ذلك على المرحلة الجديدة من حياتها .  

لكن المعنى الذى أحب أن الفت النظر إليه أن العيد بهذه الصورة ليس لكل الناس وإنما هو فقط لفريق الفائزين فى رمضان، الذين صوموا جوارحهم وقلوبهم وعقولهم كما صوموا بطونهم فى نهاره، ونصبوا لله عز وجل أقدامهم وافترشوا له وجوههم وناجوه بكلامه وتملقوا إليه بإنعامه فى ليله، هؤلاء هم الذين يعيشون فرحة العيد الحقيقية، أما الذين فرطوا فى الصيام والقيام وسائر الطاعات وأداروا ظهورهم لرمضان ففى الخاسرين والعياذ بالله، وفرحتهم مزيفة، إلا أن يتداركهم الله برحمته، وصدق من يقول فى العيد الذى يفرق بين الفائزين والخاسرين ( ما أشبه العيد بيوم الوعيد ) لأن يوم الوعيد يقسم الناس أيضا إلى فريقين، فريق فى الجنة وفريق فى السعير.

ثالثا: لقبول العبادة التى وفقنا إليها فى رمضان، والقبول من أعظم النعم أيضا التى تستوجب الشكر لله عز وجل، ولا ينال القبول كل أحد، فالعبادة التى يخدشها الرياء أو النفاق كيف يكتب لها القبول عند الله عز وجل، أما أن يوفقنا الله عز وجل إلى عبادة صحيحة ثم يقبلها منا، فتلك نعمة النعم التى يتفضل الله بها على عباده " إنما يتقبل الله من المتقين " ولقد تنبه لتلك النعمة العظيمة وهيب بن الورد رضى الله عنه حينما قال لأصحابه بعد أن صلى العيد : ( لإن أصبحتم مستيقنين بأن الله عز وجل قد تقبل منكم شهركم فقد وجب عليكم اليوم شكر ربكم ) .