اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ-46

اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ

46

"المنهج يعطي حياة خالدة"

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }الأنفال24

المعاني المفردة[1]

اسْتَجِيبُوا: أجيبوا. يَحُولُ: يفصل.

في ظلال النداء

والاستجابة هي السماع الصحيح . وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب!

ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا . الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول ، مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض؛ والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول..

استجيبوا له طائعين مختارين؛ وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد :

{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } . .

ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . { يحول بين المرء وقلبه } فيفصل بينه وبين قلبه؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه ، ويصرفه كيف شاء ، ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي بين جنبيه!

إنها صورة رهيبة حقا؛ يتمثلها القلب في النص القرآن ، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب ، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس!

إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة ، والحذر الدائم ، والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته ، أو غفلة من غفلاته ، أو دفعة من دفعاته . .

ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه : « اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » . فكيف بالناس ، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟!

إنها صورة تهز القلب حقاً ، ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات ، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه ، وهو في قبضة القاهر الجبار ، وهو لا يملك منه شيئا ، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير!

صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم :

{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } . .

ليقول لهم : إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة ، ولكنه - سبحانه - يكرمكم؛ فيدعوكم لتستجيبواعن طواعية تنالون عليها الأجر؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة؛ وأمانة الخلافة الواعية ، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .

{ وأنه إليه تحشرون } . .

فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور ، لا استجابة العبد المقهور .

 هداية وتدبر[2]

 1.  استجيبوا لله تعالى تشريعاً، وللرسول صلى الله عليه وسلم بلاغاً، وغاية التشريع والبلاغ واحدة، فلا بلاغ عن الرسول إلا بتشريع من الله عز وجل، بل وللرسول صلى الله عليه وسلم تفويض بأن يشرع. ورسول الله لم يشرع من نفسة، وإنما شرع بواسطة حكم من الله تعالى حيث يقول:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].

2.  عن ابن عباس: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان. وعن مجاهد في قوله: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، أي: حتى يتركه لا يعقل. وعن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: « يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ». قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا ؟ قال: « نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلّبها ». رواه أحمد وغيره .

3.     إن الذي يحييكم كل ما يدعو الرسول إليه من الحق والإيمان واتباع القرآن والجهاد وإحياء أمورهم

4.     {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} فيه عشرة أقوال:

أحدها يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان

والثاني يحول بين المؤمن وبين معصيته وبين الكافر وبين طاعته

والثالث يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل. قال ابن الانباري المعنى يحول بين المرء وعقله فبادروا الأعمال فإنكم لاتأمنون زوال العقول فتحصلون على ما قدمتم.

والرابع أن المعنى هو قريب من المرء لا يخفى عليه شيء من سره كقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد.

والخامس يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع إيمانا ولا كفرا إلا بإذنه.

والسادس يحول بين المرء وبين هواه.

والسابع يحول بين المرء وبين ما يتمنى بقلبه من طول العمر والنصر وغيره.

والثامن يحول بين المر وقلبه بالموت فبادروا الأعمال قبل وقوعه.

والتاسع يحول بين المرء وقلبه بعمله فلا يضمر العبد شيئا في نفسه إلا والله عالم به لا يقدر على تغييبه عنه.

5.     والعاشر يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن فيأمن بعد خوفه ويخاف بعد أمنه.

حكى الزجاج أنهم لما فكروا في كثرة عدوهم وقلة عددهم فدخل الخوف قلوبهم أعلمه الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوف الأمن ويبدل عدوة بالقوة الضعف وقد

 أعلمت هذه الآية أن الله تعالى هو المقلب للقلوب المتصرف فيها.

6.  بين تعالى أن ما يدعوهم إليه الرسول، فيه حياتهم وعزتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فالدين حياة، والكفر موت. وقيل : المحسن حي وإن كان في دار الأموات ، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء .

7.  روى الحافظ ابن كثير عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله تعالى [يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم]؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله، ليخرج فذكرت له ذلك فقال [الحمد لله رب العالمين] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.

8.  الذين لا يستجيبون لله ولا لرسوله حين يدعوهم لما يحييهم يظلون في الحياة الدنيا غارقين في اللهو واللعب، إنهم كالموتى.

9.  كما أحيا الحق الأجسام بالروح التي نفخها في القالب الطيني فصار لها حس وحركة، فهو قد أنزل المنهج أيضاً روحاً من عنده لترتقي به روح الحس والحركة، حتى لا يصير الإنسان كالأنعام أو أضل سبيلاً:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الأنعام: 32].

لطائف

10.        حكي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال الرجل: أجهل من قومي قومك حين قالوا لرسول الله، حين دعاهم الى الحق {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا اليه ! ! فأسكت معاوية رضي الله عنه واخجله.

11.        الحق تبارك وتعالى قال: { إِذَا دَعَاكُم } ولم يقل: إذا دعَوَاكُمْ، وفي ذلك توحيد للغاية، فلم يفصل بين حكم الله التشريعي وبلاغ الرسول لنا. ونعلم أن الأشياء التي حكم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم حكماً ثم عدّل الله له فيها الحكم، هذا التعديل نشأ من الله، وهو صلى الله عليه وسلم لم ينشىء حكماً عدّله الله تعالى إلا فيما لم يُنزِل الله فيه حكماً. وحين ينزل الله حكماً مخالفاً لحكم وضعه الرسول، فمن عظمته صلى الله عليه وسلم أنه أبلغنا هذا التعديل، وهكذا جاءت أحكامه صلى الله عليه وسلم إذا وافقت حقّاً فلا تعديل لها، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو صلى الله عليه وسلم يعدل لنا. وبذلك تنتهي كل الأحكام إلى الله تعالى.

               

[1] . الجامع لأحكام القرآن.

[2] . زاد المسير - ابن الجوزي. صفوة التفاسير ـ للصابونى. محاسن التأويل - محمد جمال الدين القاسمي. خواطر الشعراوي.