من لطائف ليلة القدر 2

من لطائف ليلة القدر

(2-2)

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

كان الحديث أمس عن عطاء الله الذي لا يحد، هذا العطاء الذي جعل الله له وسائل كثيرة، فرب ليلة واحدة خير من آلاف الليالي، بل رب عمل قد يُستحقر يكون سببا في رضا الله ودخول الجنة، فلقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وفي المقابل دخل رجل الجنة لأنه سقى كلبا.

ولا داعي إذا للخلاف حول قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر)،  يقول الشيخ سيد قطب في ظلال القرآن: (العدد لا يفيد التحديد في مثل هذه المواضع من القرآن، إنما هو يفيد التكثير، والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر، فكم من آلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات).

إن أناسا أرهقوا أنفسهم في حساب ألف شهر، وقالوا إن عبادة هذه الليلة تعادل عبادة ثلاث وثمانين سنة، واعتمدوا على رواية مالك في الموطأ الذي يقول: (إن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر).

والرواية صحيحة ولا نقدح فيها، ولكن فهمها في ضوء لغة القرآن يجعلنا نقول: إن ثواب الليلة خير من ألف شهر، فالعدد ليس تحديدا، بل تكثيرا.

هذه هي اللطيفة الأولى أما اللطيفة الثانية فتتعلق بتعيين ليلة القدر، وفيها نقرأ هذا الحديث الذي ورد في مستدرك الحاكم عن مالك بن مرثد عن أبيه قال: سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ليلة القدر؟ فقال: أنا كنت أسأل الناس عنها قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان أو في غيره؟ قال: قال: بل هي في رمضان، قال قلت: يا رسول الله تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبض الأنبياء رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قال فقلت: يا رسول الله في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول والعشر الأواخر، قال ثم حدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدث فاهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله في أي العشرين؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها ثم حدث رسول الله - وحدث فاهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله أقسمت عليك لتخبرني أو لما أخبرتني في أي العشر هي؟ قال: فغضب علي غضبا ما غضب علي مثله قبله ولا بعده فقال: إن الله لو شاء لأطلعكم عليها التمسوها في السبع الأواخر.

لقد اجتهد الصحابة ومن بعدهم في تحديد ليلة القدر حتى ألحوا على النبي في السؤال كما يظهر في الحديث السابق، وكانت لهم اختلافات فمنهم من قال في إحدى وعشرين ومن قال ثلاثا وعشرين، ومن قال خمسا وعشرين أو سبعا وعشرين أو تسعا وعشرين. وكل رأي كانت له أدلة لعل من ألطفها تحليل ابن عباس الذي يقول: إن سورة القدر ثلاثون كلمة فهي في قوله «سلام » و «هي» الكلمة السابعة والعشرون، فدل أنها فيها).

واللطيفة الثالثة في قوله (سلام) التي يعلق عليها الفخر الرازي في مفاتح الغيب فيقول: (يجب أن لا يستحقر هذا السلام؛ لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ، فازداد فرحه بذلك على فرحه بملك الدنيا، بل الخليل لما سلم الملائكة عليه صار نار نمروذ عليه برداً وسلاما، أفلا تصير ناره تعالى ببركة تسليم الملائكة علينا برداً وسلاماً، لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلاً مشوياً، وهم يريدون منا قلباً مشوياً، بل فيه دقيقة، وهي إظهار فضل هذه الأمة، فإن هناك الملائكة، نزلوا على الخليل، وههنا نزلوا على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-).

واللطيفة الأخيرة تأمل في حديث رسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأُرِيتُ مَسِيحَ الضَّلالَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلَيْنِ يَتَلاحَيَانِ فَحُجِزْتُ بَيْنَهُمَا فَأُنْسِيتُهَا فَاطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وِتْرًا، فَأَمَّا مَسِيحُ الضَّلالَةِ فَرَجُلٌ أَجْلَى الْجَبْهَةِ، مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، عَرِيضُ النَّحْرِ كَأَنَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ قَطَنٍ).

فالخلاف والشقاق سبب للحرمان من الفضل، ولعل هذا يجعلنا نتأمل أن أفضل دعاء في ليلة القدر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه يعلي قيمة العفو، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)؛ لأن ليلة القدر التي يفرق فيها كل أمر حكيم، تقول: إن من الحكمة ترك الخلاف والنزاع حتى لا يتنازع الناس فيفشلوا وتذهب ريحهم، ومن الأولى أن تكون ليلة الصفح والغفران، وصفحة بيضاء بين الناس سمتها الحب والمصالحة، لا العداوة والمقاطعة، وإلى لقاء غدا إن شاء الله مع حديث آخر للزمن.